رضاع الكبير
حديث رضاع الكبير لم يكن مثار نقاش في زمن الصحابة، ولم يسمعوا به، بل كان قد بُدِئ يُسمَع به منذ عصر التابعين وقبل عصر تدوين الحديث، وصدَّق بعضهم أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد نصح سهلةَ زوجة أبي حذيفة أن تُرضع سالما الذي كان أبو حذيفة قد تبنّاه، ومع هذا فلا أعرف أحدًا من التابعين قد أخذ به أو دعا له.
وقد نسبوا إلى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أنهنّ اختلفْنَ فيه، فعائشة كانت تقول به وتطبّقه، ولكن لم يذكروا مثالا واحدا على تطبيقها، أما غيرها فكُنّ يقُلْن إنه خاصٌّ بسالم!
ويبدو أنّ بعض الأبالسة حين سمعوا حديث: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ" أخذوا يتندّرون، ويقولون: ماذا لو رضع رجل من زوجته خطأً؟! وهل يمكن لرجل أن يرضع من أجنبية ليصبح من محارمها؟! وماذا لو حلَلْنا مشكلة التبنّي بالرضاع، أي ماذا لو رضع هذا المتبَنَّى الشابُّ من امرأةِ البيت ليصبح محرمًا على كل مَن فيه؟! فسمع بعض الناس هذه السخرية فظنوها حقيقةً فروَوْها. كما أنّ بعضَ زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم كُنَّ يجعلن بعض الأطفال الرضَّع يرضعون من أخواتهنّ أو بنات إخوتهنّ وأخواتهنّ من أجل أن يصبحَ هؤلاء الرضَّعُ من المحارم حين يكبرون، فيسهل التعامل معهم فيدخلون البيت كأنهم أحد أفراده، فربطَ البعض خطأً بين هذا وذاك، فنسبوا إلى عائشةَ أنها كانت تطلب من قريباتها أن يُرضعن الكبار لتحقيق غرض الحِرمة.
ويتضح من رواياتٍ أنّ عائشة رضي الله عنها كانت لا ترى بأسا بدخول الصِّبية غير البالغين عليها، بينما كانت بعض أمهات المؤمنين يرفضن ذلك، ولا يقبلن أن يدخل أي فتى عليهنّ حتى لو لم يبلغ، ففُفهم هذا التفاوت خطأً لاحقا، ونسبوا إليهنّ نقاشا في رضاع الكبير، مع أنه نقاش في دخول الصِّبية غير البالغين. كما يُحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد وجّه امرأةً إلى إرضاع رضيع من مُلك اليمين ليصبح مثل ابنها، إزالةً للغيرة من قلب زوجها حين يكبر هذا المولى ويصبح شابا، ثم حدث خلط في الأحداث وفي الشخصيات.
وحيث إنّ مداخل رضاع الكبير متعدّدة كما هو ظاهر، وحيث إنه متشابك مع قضايا عديدة، وحيث إنّ رُوي في عدة سياقات خَلْطًا، فلم يجد أهل الحديث بُدًّا من قبوله سنَدًا، مع أنه مردود قرآنا وحديثًا وعقلا وتاريخًا. وفيما يلي الأدلة العقلية والنقلية القاطعة على بطلانه:
أولا: الأدلة العقلية:
1: الناس بمختلف لغاتهم وألوانهم وثقافاتهم ومستوياتهم وأعراقهم وأزمانهم يُجمعون على أنّ إرضاع رجل من امرأة مقزّزٌ ولا يخطر ببال، ولو سمعوا أنّ رجلا مارسه أو دعا له لاتّهموه بالجنون، ولو كان هذا الرجل يحترمونه لتندّموا على احترامهم السابق له، فهل يُعقل أن يسمع الصحابة برضاع سالم الشاب لسهلة ثم يسكتون؟ لماذا لم يصِلْنا أيُّ نقاش حول ذلك بين أي منهم؟ لماذا لم يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم مزيدا من الإيضاح؟ 2: أين ضعاف الإيمان وأين المنافقون والمشركون واليهود في ذلك الزمان؟ لماذا لم يملأوا الدنيا ضجيجا اعتراضًا على هذا الرضاع الجنوني؟ لماذا لم يصلنا أي تعليق من أيّ منهم قطّ؟ هل يُعقل أن يسكتوا؟ هل يُعقل ألا يستغلوا هذه الفرصة الذهبية لانتقاد الإسلام والوحي كله؟ 3: هل يُعقل أن يتقبّل سالم هذه الرضعة بل الرضعات الخمس المشبعات؟ ألا يجب عليه على الأقل أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ويتأكد مما قاله صلى الله عليه وسلم؟ أو على الأقل أن يسأله عن عدد الرضعات وعن كمية الرضعة المشبعة المحرمة؟ ألا يدلّ سكوت الروايات عن ذلك كله على أنه لا أصل ها؟ 4: هل يُعقل أن يقبل أبو حذيفة أن يلتقم رجُلٌ ثديَ زوجته؟ حتى لو كان متبنّاه، بل حتى لو كان ابنه؟ لماذا لم يأتِ للرسول صلى الله عليه وسلم ويتأكد؟ وإذا كان يغار من دخول رجلٍ كان في يوم من الأيام متبنّاه، فهل تبرُد غيرته وهو يرى سالماً ينظر إلى صدر سهلة وثديها ثم يلتقمه خمس مرات؟ 5: لماذا لم تتكرر هذه الحادثة؟ لماذا لم يأتِ آخرون ممن تبنَّوْا أولادا صاروا شبابا، ثم جاء التحريم بالتبني، لماذا لم يتّبعوا ما قام به سالم ويرضعوا كما رضع من سهلة؟ إذا كان هذا العمل المقزز معقولا في ذلك الزمان، جدلا.
6: لماذا لم يسأل أحد عن مدى جواز أن يلتقم غريب ثدي امرأة لا تمتّ له بصلة؟ أين هم من آية {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور 30)؟ ألم يسألوا عن هذا التناقض الفادح، وهم الذين كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم فورا عن أي عبارة يبدو فيها تعارض، كما سألوه حين قال: انصر أخاك ظالما أو مظلوما؟ لماذا لم يستفسروا عن التناقض الكبير بين جواز هذا الرضاع وبين حرمة مصافحة المرأة؟ فأين الرضاع من المصافحة؟ 7: هل في ثديي سهلة لبن دائم حتى ترضع سالما؟ فاللبن لا يُدرّ في الثدي إلا عند الولادة وخلال فترة رضاع الابن، وبعدها يجفّ. ولم يرِد أنّ لسهلة أي ولد في ذلك الوقت. 8: أما الحكايات المنسوبة لعائشة أنها "أَخَذَتْ بِذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَبَنَاتِ أَخِيهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ"، فأين هم هؤلاء الذين رضعوا من أم كلثوم وغيرها؟ ما أسماؤهم؟ وما تعليق الناس وقتها على هذا الأمر؟ إذا كانت "سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أبيْن أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضْعَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ"، فهل يُعقل أن يكتفين بالقول لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نُرَى الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إِلَّا رُخْصَةً فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ"؟ هل يُعقل أن يتوقف النقاش عند هذه المسألة؟ لماذا لم يستشرن الخليفة مثلا في مثل هذه القضية الخطيرة؟ لماذا لم يختلف الصحابة في المسألة؟ لماذا لم يتناقشوا؟ أليس هؤلاء الذين يرضعون من أم كثلوم يتواجدون بينهم؟ ألم يناقشهم أحد في حرمة ذلك أو حلِّه؟ ألم يسألهم أحد مازحا عن طعم الحليب؟ لماذا كل هذا مسكوتٌ عنه تماما، ولم يصلنا أي شيء منه قطّ، مع أنها أمور مثيرة للنقاش والمزاح والسخرية والاستغراب، فمثل هذا لا يمكن أن يُسكَت عنه لحظة، بل كانت ستُروى حوله ألف رواية لو كان قد حدث. 9: لماذا تختلف زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على ذلك؟ لماذا لم يسألنه في حياته عن هذه القضية الكبيرة، أهي خاصة أم عامة؟ 10: لماذا لم يَثُر أي نقاش زمن الصحابة حول آية {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ومدى تعارضها أو نفيها لرضاع الكبير من عدمه؟ لماذا لم يثُر أي نقاش بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهنّ المختلفات حول هذا الحكم حسب الرواية؟! فلو صحّت قصة رضاع سالم لأثارت ألف سؤال ولنُقل لنا حولها ألف رواية، وحيث إنّ شيئا من هذا لم يحدث قطّ، فثبت أنّ رضاع الكبير لم يسمع به الصحابة قطّ.
ثانيا: الأدلة النقلية/الآيات والأحاديث
أما الأدلة النقلية القاطعة على استحالة أن يكون هذا قد حدث فهذه بعضها: 1: قوله تعالى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة 233)، فعبارة (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) قاطعة في أنّ ما زاد على العامين ليس من الرضاعة.. يعني لا يُسمّى رضاعة، بل يسمى شرب حليب. وهناك آيات تتضمن نفس المعنى، وهي أ: قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان 14)، والفصال هو الفِطام.. يعني أنّه لا يعود رضيعًا بعد مرور عامين على ولادته. ب: قوله تعالى {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (الأحقاف 15).. يعني أنّ الحمل والفطام ثلاثون شهرا، منها 24 شهرا حسب الآية السابقة وآية (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)، والباقي هو مدة الحمل الذي تشعر به المرأة، أو هو أقلّ مدة حمل. 2: ما رواه البخاري وغيره عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ قَالَ يَا عَائِشَةُ مَنْ هَذَا قُلْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ قَالَ يَا عَائِشَةُ انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ. (البخاري) معنى الحديث أنه لا بد من التأكد متى رضع فلان، فإذا كان قد رضع وهو أكثر من سنتين، حتى لو بشهر واحد فلا قيمة لهذا الإرضاع في عَدّ الطفل من المحارم. وهذا نصٌّ واضح كالشمس، فهل كانت عائشة تجهل هذا القول حين اختلفت مع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي التي روَتْه؟ أو هل كنّ هنّ جاهلات بهذا القول فلم يذكِّرنها به؟ فالحقّ أنه لم يدُر أي نقاش بينهنّ ولا خلاف في رضاع الكبير. 3: ما رواه الترمذي عن أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ". (الترمذي)
ثالثا: الأدلة النقلية/أقوال الصحابة
1: عُمَر بْن الْخَطَّابِ
ففي موطأ مالك: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَا مَعَهُ عِنْدَ دَارِ الْقَضَاءِ يَسْأَلُهُ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنِّي كَانَتْ لِي وَلِيدَةٌ وَكُنْتُ أَطَؤُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إِلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فَقَالَتْ دُونَكَ فَقَدْ وَاللَّهِ أَرْضَعْتُهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَوْجِعْهَا، وَأْتِ جَارِيَتَكَ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ رَضَاعَةُ الصَّغِيرِ. (موطأ مالك) وهذه الرواية تدل على أن رضاع الكبير هي فكرة إبليسية غايتُها تشويه الدين، فلسان حال الأبالسة يقول: ما دام الإسلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فلماذا لا نُرضع الكبير من أجل أن يصبح من محارمنا؟ ولماذا لا تُرضِع هذه الزوجةُ الزوجةَ الأخرى حتى تصبح محرَّمة عليه.. لأنها صارت ابنة زوجته؟ مع أن هذه المرأة لا بد أن تكون كاذبة، وأنّها اخترعت هذه القصة حتى لا يطأَ هذا الرجل أمَتَه. وأما الأمَةُ فلا تستطيع التكذيب، وإلا تعرضت لعقاب هذه السيدة!! وإلا، كيف تقبل هذه الأمة بهذا الرضاع؟ بل كيف تنجح فيه أصلا؟ وهذه الرواية تُبطل فكرة نقاش زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم حول الأمر، وتُبطل فكرة أن عائشة كانت تقول به، وإلا لقال السائل لابن عمر: فما رأيك بقول عائشة، وإصرارها على أن ترضع الشباب من أخواتها؟ 2: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فَقَالَ: إِنِّي مَصِصْتُ عَن امْرَأَتِي مِنْ ثَدْيِهَا لَبَنًا فَذَهَبَ فِي بَطْنِي، فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَا أُرَاهَا إِلَّا قَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: انْظُرْ مَاذَا تُفْتِي بِهِ الرَّجُلَ! فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَا رَضَاعَةَ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ. فَقَالَ أَبُو مُوسَى لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَا كَانَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ. (الموطّأ) أَبو مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ تسرَّع في الحكم، ولم تخطر بباله الآية. ولكنه سرعان ما تراجع بعد سماع الحكم، ولم يقُل لعبد الله بن مسعود: فماذا تقول في حديث رضاعة الكبير؟ وماذا تقول في قول عائشة؟ مما يؤكد أنّ هذه الأقوال نُسبت لعائشة بعد وفاتهم ووفاتها بسنوات. الأدلة على ما ذُكر سابقا من أنّ عائشة وحفصة كانتا تُرسلان رضَّعًا ليرضعوا من أختيهما: 1: عَنْ نَافِعٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَتْ بِهِ وَهُوَ يَرْضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقَالَتْ أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ. قَالَ سَالِمٌ فَأَرْضَعَتْنِي أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ فَلَمْ تُرْضِعْنِي غَيْرَ ثَلَاثِ رَضَعَاتٍ، فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ. (الموطَّأ) فهذه رواية يُعتدُّ بها، فهي تتحدث عن شخصية معروفة، لا مجرد سرد بلا أسماء. وهي دليل واضح في نقض رضاع الكبير، إذ لو كان الرضاع بعد السنتين معتَدًّا به لكان أمام عائشة سنوات عديدة لِتطلب من أختها أن تتابع في رضاعته؛ فواضح أنها لم تستطع أن ترضعه عشر رضعات خلال السنتين الأولى والثانية. 2: عَنْ نَافِعٍ أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَتْ بِعَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ إِلَى أُخْتِهَا فَاطِمَةَ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تُرْضِعُهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهَا وَهُوَ صَغِيرٌ يَرْضَعُ فَفَعَلَتْ فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا. (الموطّأ) وهكذا الحال هنا، فالرضيع معروف بالاسم. أما الرواية القادمة فعامة، وهي مما يمكن أن يسيء فهمَه مَن لا يتفكر، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَتْهُ أَخَوَاتُهَا وَبَنَاتُ أَخِيهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إِخْوَتِهَا. (الموطّأ)، فهنا لم يذكر صغيرا أم كبيرا، لكن علينا أن نفهمه في ضوء الروايات الواضحة، وقبل ذلك في ضوء القرآن وفي ضوء العقل.
الروايات الباطلة:
فيما يلي الروايات الداحضة التي تنقضها الأدلة السابقة: القسم الأول: قصة قدوم سهلة على الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ. قَالَتْ وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ. (مسلم)
القسم الثاني: قصة النقاش بين زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أخرج النسائي عن عروة بن الزبير قَالَ: أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضْعَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ- يُرِيدُ رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ- وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نُرَى الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إِلَّا رُخْصَةً فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضْعَةِ وَلَا يَرَانَا. (النسائي وموطأ مالك)
3: القسم الثالث: تبرير عائشة دخول الغرباء عليها فقد أخرج مسلم في صحيحه حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ؟ قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ". (مسلم) الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ هو الذي لم يبلغ بعد. فالسؤال هنا: ما الإشكال في أن يدخل الفتيان الذين لم يبلغوا بعدُ على أمّ المؤمنين؟ وما علاقة ذلك برضاع الكبير؟
أم سلمة تعترض على دخول الفِتية غير البالغين، وعائشة لا ترى في ذلك إشكالا ما داموا أيفاعا لم يبلغوا.. فالجواب المنسوب لعائشة هنا مُقحَم، وخارج السياق، وهو يشير إلى إمكانية سوء فهم الراوي وإقحامه الكلام. ثم لماذا لم تذكر الرواية ردَّ أم سلمة؟ هل اقتنعت بسرعة وسكتت؟ فالرواية غامضة ناقصة لا علاقة فيها بين جواب عائشة واعتراض أم سلمة، فمثل هذه الرواية لا تقف أمام الأدلة القاطعة المذكورة آنفا.
منقول