أجساد الأنبياء والشهداء هل تتحلّل؟
لو عُثر على جثة سليمة لنبيّ أو شهيد مضى على وفاته زمان، ثم إنّ هذه الجثة التي لم تتحلّل عبر القرون والسنين قد عُرضت على الفضائيات، فماذا سيحدث؟
سيأتي الناس من كل حدب وصوب لمشاهدة جثة هذا النبيّ أو ذلك الشهيد، وسيظلّون يتحدثون عن ذلك أيامًا، وحين يَذكر لهم الشيخ أنّ بقاء هذه الجثة هو مصداق الحديث النبوي الذي أخرجه أبو داود في سننه، فلن يبقى ملحدٌ على وجه الأرض، ذلك أنّ هذا دليل إلجائيّ، وسيضطر العالمُ كله للإيمان، وسيضحكون بملء فيهم على مَن أصرّ على عدم اعتناق الإسلام.
عددُ جثث أنبياء بني إسرائيل في فلسطين وحدها يتجاوز الآلاف حسب الروايات التالية:
1: تفسير الطبري (6 / 286)، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة، قتلتْ بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة"!
2: الدر المنثور (1 / 128)، "أخرج أبو داود الطاليسي وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي!! ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار".
ومع أنه لا يمكن تصديق مبالغات هذه الروايات، إلا أنه يستفاد منها أن أنبياء بني إسرائيل لم يكونوا قلة، وهي حجة على القائلين بذلك.
أما عدد الشهداء فهو يتجاوز الملايين، فقد ظلّ المؤمنون يُقتلون عبر تاريخ الأنبياء، وفي عهد الصحابة وحدَهم كان يُقتل المئات والآلاف في المعارك مع الفرس والروم والقبائل العربية المعتدية.
فلماذا لم يُعثر حتى هذه اللحظة على جثة أيٍّ من هؤلاء مع كثرة الحفريات التي تملأ العالم، ومع أنّ هناك إمكانية لاكتشاف ما في باطن الأرض وتصويره؟ فمدينة القدس مثلا -وهي أكثر بلدٍ تُوفّي فيها أنبياء وشهداء- قد حُفر كل شبر فيها بعمق أمتار عديدة، ولكن لم يُعثر على جثة واحدة لنبيّ، ولا لشهيد. ولو عُثر لبثَّته فضائيات العالم، أما الحكايات الزغلولية النجارية وما شابهها حول مثل هذه المواضيع فهي أتفهُ مِن أنْ يُلتَفَت إليها.
قبْل الإسلام بعث الله كثيرا من الأنبياء، وهناك ملايينُ المؤمنين بهم، ولم نسمع ولم نقرأ نصًّا واحدا في كتبهم المقدسة يقول إنّ أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض ولا تتحلل. فلماذا يتركون مثل هذا الأمر ويُخفونه؟
بل وجدنا عكس ذلك، فمثلا:
1: جثة يوسف عليه السلام صارت عظاما، وأخذها موسى عليه السلام معه إلى نابلس، حسب سِفر الخروج، حيث ورد: "وَأَخَذَ مُوسَى عِظَامَ يُوسُفَ مَعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَحْلَفَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَلْفٍ قَائِلاً: إِنَّ اللهَ سَيَفْتَقِدُكُمْ فَتُصْعِدُونَ عِظَامِي مِنْ هُنَا مَعَكُمْ". (اَلْخُرُوجُ 13: 19)
وكرَّر هذا الكلام يشوعُ في سِفره، حيث يقول: "وَعِظَامُ يُوسُفَ الَّتِي أَصْعَدَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ دَفَنُوهَا فِي شَكِيمَ، فِي قِطْعَةِ الْحَقْلِ الَّتِي اشْتَرَاهَا يَعْقُوبُ مِنْ بَنِي حَمُورَ أَبِي شَكِيمَ بِمِئَةِ قَسِيطَةٍ، فَصَارَتْ لِبَنِي يُوسُفَ مُلْكًا". (يَشُوع 24: 32)
2: عظام أَلِيشَع: "فَطَرَحُوا الرَّجُلَ فِي قَبْرِ أَلِيشَعَ، فَلَمَّا نَزَلَ الرَّجُلُ وَمَسَّ عِظَامَ أَلِيشَعَ عَاشَ وَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ". (اَلْمُلُوكِ الثَّانِي 13: 21)
3: "فَتَرَكُوا عِظَامَهُ وَعِظَامَ النَّبِيِّ الَّذِي جَاءَ مِنَ السَّامِرَةِ". (اَلْمُلُوكِ الثَّانِي 23: 18)
4: "فِي ذلِكَ الزَّمَانِ، يَقُولُ الرَّبُّ، يُخْرِجُونَ عِظَامَ مُلُوكِ يَهُوذَا وَعِظَامَ رُؤَسَائِهِ وَعِظَامَ الْكَهَنَةِ وَعِظَامَ الأَنْبِيَاءِ وَعِظَامَ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ مِنْ قُبُورِهِمْ". (إِرْمِيَا 8: 1)
ولا مبرر لتكذيب هذه النصوص البتّة، فهي موزَّعة عبر أسفار الكتاب المقدس. وقبرُ يوسف عليه السلام موجود في نابلس ولا يجهله أحد من أهلها أو من المدن والقرى المجاورة. وما معنى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } إذا كانت التوراة كلُّها باطلة؟
ولو كانت أجساد الأنبياء والشهداء لا تتحلل لخصَّص الرسولُ صلى الله عليه وسلم خطبةً بهذا الأمر الهام وهذه الآية العظيمة، ولتحدَّث الصحابة عن شهدائهم الذين لن يأسُنوا قطّ! بل لقال الصحابة عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: لا مبرر للاستعجال في دفنه صلى الله عليه وسلم، بل سنُبقي جسده الشريف بيننا شهرًا على الأقل، لنرى معجزة عدم تحلّل الجثة بأمّ أعيننا ويزداد إيماننا، ونُري الجثة للمشركين والمنافقين لعلهم يتوبون!
لكنّ مثل هذا النقاش لم يحدث قط، بل الذي حدث عكسُه تماما، وهو دعوةُ العباس رضي الله عنه للتسريع في دفن جسد الرسول صلى الله عليه وسلم خوفًا مِن أنْ يأسُن، لأنه بشر ويَأْسُنُ كَمَا يَأْسُنُ الْبَشَرُ، فعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، فَحُبِسَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَالْغَدَ حَتَّى دُفِنَ لَيْلَةَ الأَرْبِعَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِجَ بِرُوحِ مُوسَى، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنْ عُرِجَ بِرُوحِهِ كَمَا عُرِجَ بِرُوحِ مُوسَى، وَاللَّهِ لاَ يَمُوتُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَقْطَعَ أَيْدِيَ أَقْوَامٍ وَأَلْسِنَتَهُمْ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يَتَكَلَّمُ حَتَّى أَزْبَدَ شِدْقَاهُ مِمَّا يُوعِدُ وَيَقُولُ، فَقَامَ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ وَإِنَّهُ لَبَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْسُنُ كَمَا يَأْسُنُ الْبَشَرُ.أَيْ قَوْمِ، فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ فَإِنَّهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْ يُمِيتَهُ إِمَاتَتَيْنِ، أَيُمِيتُ أَحَدَكُمْ إِمَاتَةً وَيُمِيتُهُ إِمَاتَتَيْنِ وَهُوَ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ؟ أَيْ قَوْمِ فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ، فَإِنْ يَكُ كَمَا تَقُولُونَ فَلَيْسَ بِعَزِيزٍ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ التُّرَابَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى تَرَكَ السَّبِيلَ نَهْجاً وَاضِحًا، فَأَحَلَّ الْحَلاَلَ وَحَرَّمَ الْحَرَامَ. (سنن الدارمي، وابن سعد في الطبقات)
لم يقاطع ابنَ عباس أحدٌ قائلا: ويحك، ماذا تقول؟ لماذا تهين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ألا تعلم أنّ أجساد الأنبياء لا تأسُن ولا تتحلّل؟
هل يمكن أن تُرفض هذه الأدلة كلها برواية أعلَّها عددٌ من المحدِّثين، وهي نفسها لا تفيد ما يذهبون إليه كما سنرى؟
هذه الرواية أخرجها أصحاب السنن غير الترمذي، وفيها:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ قُبِضَ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ. (أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم)
سنفرض صحّة هذه الرواية، فالسؤال: هل عَرْضُ شيءٍ على النبي صلى الله عليه وسلم يستلزم أن يكون جسده كما هو؟ أليست الروح هي التي تحسّ؟ وهل يحسّ عامة الأموات بالناس قبل أن تتحلَّل أجسادهم؟ هل يفقد الإنسان صلتَه بهذا العالم بمجرد وفاته أم بتحلل جسده؟ وإذا تمّ تحنيطُ جسدٍ أو تجميدُه بحيث لا يتحلَّل، فهل يظلّ لديه إحساس بالعالم وبما يجري حوله وبما يُعرض عليه؟
هذا لا يقول به أحد.
إذن، هم يستنبطون من الرواية ما لا يؤمنون به.
فحين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ فلا بدَّ أن يكون قد قال عبارة تفيد أنّ الأنبياء يحسّون بما يُعرض عليهم من صلاة عليهم، فالله تعالى منحهم هذا، ومنَع الأرض من أن تَحول بينهم وبين الناس.
وهذا الذي قاله صلى الله عليه وسلم عَبَّر عنه الراوي بهذه النص الذي في الرواية، أو عبَّر عنه أحد رواة السلسلة بهذا. خصوصا أنه روي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ. (أبو داود).. فالمهم هو الروح وليس الجسد.
هاني طاهر
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.