شبهة الحمر الأهلية
يثير الخصوم شبهة بأن حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام قد حلل أكل لحوم الحمر الأهلية التي حرمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بإجماع الأمة وذلك حسب نص من كتاب إزالة الأوهام صفحة ١٣٧ بينما كان سياق حديث المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لمن أراد العودة إليه هو في تفنيد العقيدة الصليبية وقيام المسيح كما يتصور المشايخ بقتل الخنازير على وجه الحقيقة لا مجازا ويضرب على ذلك أمثلة تجعل من هذا التصور عبثا لا يليق بمقام نبي كعيسى ابن مريم عَلَيهِ السَلام، فوصف المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الغزلان والحمر الأهلية بالطيب مقارنة بـ نجاسة الخنزير الذي يصر النصارى على أكله وهو دليل أن المسيح المتصور في ذهن المشايخ لا يجوز له مخالفة التوراة التي تحرم حتى لمس الخنزير ما بالك بـ اصطياده. فالمسيح الموعود عَلَيهِ السَلام لم يحرّم ولم يحلل بل تكلم عن صيد عيسى المزعوم للخنازير واقترح على المشايخ صيد الغزلان أو الحمر الاهلية فهو أطيب من الخنازير.
أما الرد على ذلك فيكون أولاً من كتاب الله تعالى، والسؤال الذي نطرحه ؛ هل في كتاب الله تعالى آية تحرم أكل لحوم الحمر الأهلية ؟
بالطبع لا توجد آية تحرم أكل لحوم الحمر الأهلية وهذا باعتراف الخصوم أنفسهم. إذاً، فلا أصل لهذا التحريم في كتاب الله العزيز، ولا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بما لا أصل له في القرآن الكريم.
لقد تم ذكر المحرمات حصرا في [سورة الأنعام 145] ولا تجد فيه ذكر الحمر الأهلية :
{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) [البقرة/173] }
ثانياً، لم تقطع السنة النبوية بحرمة لحوم الحمر الأهلية بل اختلف العلماء حول نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كما في حديث البخاري عن أكل الحمر بعد أن تم طهيها في القدور، فمنهم من رأى أن النبي ﷺ حرمها من أجل خوف قلة الظهر وهذا تسنده الآية من سورة النحل {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} فيثبت سبب التحريم من ذلك لانعدام وسيلة الركوب, ومنهم من رأى حرمتها لأنها لم تخمس أو لأنها جوالة القرية، أي جلالة تأكل النجاسات. [انظر صحيح البخاري (3155)، وصحيح مسلم (1937)، وسنن أبي داود (3809)، ومعجم الطبراني (12226)]. وهكذا لم يتفق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على حرمتها ولا يمكن أن يختلف الصحابة على مسألة قطعية. عموما، نجد الجواب كالتالي :
".. وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية مختلف في تأويله على أربعة أقوال :
الأول : أنها محرمة كما قالوا .
الثاني : أنها حرمت بعلة { أن جائيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : فنيت الحمر . فنيت [ ص: 292 ] الحمر . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ينادى بتحريمها } لعلة من خوف الفناء عليها ; فإذا كثرت ولم يضر فقدها بالحمولة جاز أكلها ; فإن الحكم يزول بزوال العلة .
الثالث : أنها حرمت لأنها طبخت قبل القسمة .
الرابع : أنها حرمت لأنها كانت جلالة خرجه أبو داود . وقد { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل جلالة البقر } . وهذا بديع في وجه الاحتجاج بها.
وكذلك ما روي عنه في كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير إنما ورد في المسند الصحيح بقوله نهى ، ويحتمل ذلك النهي التحريم ، ويحتمل الكراهية ، مع اختلاف أحوال السباع في الافتراس . ألا ترى إلى الكلب والهر والضبع فإنها سباع ، وقد وقع الأنس بالهر مطلقا وببعض الكلاب ، وجاء الحديث عن جابر أن الضبع صيد ، وفيها كبش .
ولسنا نمنع أن يضاف إليها بالسنة ما صح سنده ، وتبين مورده ، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد إحصان ، أو كفر بعد إيمان ، أو قتل نفسا بغير نفس } . وهذا كله على أن مورد الآية [ ص: 293 ] مجهول . فأما إذا تبينا أن موردها يوم عرفة فلا يحرم إلا ما فيها ، وإليه أميل ، وبه أقول .
قال عمرو بن دينار : قلت لجابر بن زيد : إنهم يزعمون أن { النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية } . قال : قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري ، ولكن أبى ذلك الحبر يعني ابن عباس ، وقرأ : { قل لا أجد فيما أوحي } الآية ، وكذلك يروى عن عائشة مثله . وقرأت الآية كما قرأها ابن عباس ." أهـ
(أحكام القرآن لابن العربي» سورة الأنعام فيها ثمان عشرة آية» الآية الثالثة عشرة قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما » مسألة المحرمات على ثلاثة أقسام مطعومات ومنكوحات وملبوسات)
والآية التي تلاها ترجمان القرآن وحبر الأمة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هي من قوله تعالى:
"قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير.." [الأنعام: 145]
والحديث من صحيح البخاري :
"روى عمرو: قلت لجابر بن زيد: "يزعم الناس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن أكل لحم الحمر، ولكن الحبر ابن عباس رفض أن يفتي في ذلك, وتلا: "قل لا أجد فيما أوحي إلي".".
كذلك ورد عن الإمام مالك أنه لا يقول بحرمتها بل بكراهيتها واختُلف في ذلك.
ما روي عن ابن عباس [هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي حبر الأمة الصحابي الجليل ـ توفي سنة 68هـ بالطائف/الأعلام ص228 ج4.] أنه كان يقول بظاهر قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} [الأنعام آية (145).] وتلاها ابن عباس وقال ما خلا هذا فهو حلال [المغني مع الشرح الكبير ص65 ج11 وانظر شرح النووي على صحيح ومسلم ص91 ج13 وصحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ص654ـ655 ج9.] ـ فهذا حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس يفهم من الآية الكريمة عدم تحريم الحمر الأهلية.
كذلك ما جاء في حديث غالب بن أبجر من قوله: (أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية، وقد أصابتنا سنة. قال: (أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية). [رواه أبو داود]
ورد في عمدة الأحكام للمقدسي رحمه الله:
٣٨٦ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: ((أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ , فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ: وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ , فَانْتَحَرْنَاهَا فَلَمَّا غَلَتْ بِهَا الْقُدُورُ: نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَكْفِئُوا الْقُدُورَ , وَرُبَّمَا قَالَ: وَلا تَأْكُلُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئاً)) .
(عمدة الأحكام، عبد الغنى المقدسي المتوفى سنة ٦٠٠ هـ، ج ١، ص ٢٦١)
أي أن التحريم ليس مؤكدا عند الجميع.
بناء على ذلك فإن الحمر الأهلية ما حرمت إلا لنفوقها والشاهد على ذلك اختلاف الصحابة حول حرمتها ومنهم ابن عباس الذي أكد على كونها حلالا، ولا اختلاف في الحرام عند جمهور الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، كما أن ما ورد عن تراجع ابن عباس لا يقوى سنده على ما جاء في صحيح البخاري ويدعمه استشهاد ابن دينار وجابر بن زيد بحديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ والعلة واضحة من سبب التحريم لقول الله تعالى (لتركبوها) أي أنها مخصصة للركوب ولم يحرم لحمها في نص التحريم المعروف بالإضافة النداء لرسول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فنيت فنيت أي أن العلة قد ظهرت من التحريم وهو فناء ما يحتاجه الناس لركوبهم ونقل متاعهم.
أما الذين يحتجون بكونه رجس فالآية تتحدث عن الخنزير لا غيره كما أن الحديث الذي يستشهدون به نفسه يرد عليهم:
" وَعَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ, أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا طَلْحَةَ, فَنَادَى: [ص: ١٣] «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ [الْأَهْلِيَّةِ] , فَإِنَّهَا رِجْسٌ».".
(صحيح. رواه البخاري (٢٩٩١)، ومسلم (١٩٤٠) من طريق محمد بن سيرين، عن أنس به. وزاد مسلم: «من عمل الشيطان».) (أورده كذلك ابن حجر العسقلاني المتوفى: ٨٥٢هـ في كتابه "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" جزء ١، صفحة ١٢)
لاحظ الزيادة من صحيح مسلم «من عمل الشيطان» وهو دليل أن المقصود به أكل اللحوم لا اللحوم ذاتها فاللحوم من عمل وصنع الله تعالى لا الشيطان وإنما المراد هنا هو الأكل الذي نهى عَنْهُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حيث لا يشترط أن يكون كل حلال طيب والدليل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره عن أبي سعيد، قال: "لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك البقلة الثوم والناس جياع، فأكلنا منها أكلا شديدا، ثم رحنا إلى المسجد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الريح، فقال: من أكل من هذه الشجرة الخبيثة شيئا، فلا يقربنا في المسجد، فقال الناس: حرمت، حرمت، فبلغ ذاك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إنه ليس بي تحريم ما أحل الله لي، ولكنها شجرة أكره ريحها." أهـ
وهذا دليل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يحرم ما لم يرد فيه نص بالتحريم في القرآن الكريم إنما لكل مقال مقام ولكل حادث مناسبة وإلا لكان النهي عن الثوم ووصفه بـ الخبيث تحريم ثابت حيث يقول الله تعالى "ويحرم عليهم الخبائث" والخبيث من الأكل أقوى للاستدلال على التحريم من الرجس لورود نص صريح في ذلك بينما نجد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نفى أن يكون قد حرم ما لم يحرمه الله بنص صريح في كتابه العزيز. وهكذا فليس كل حلال طيبا فمن الحلال ما تعافه النفس كما حدث عند دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم للأكل من لحم الضب فرفع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يده وبيّن كرهه لهذا الأكل مع أن لحم الضب ليس حراما ولا يقول بحرمته أحد. ولكننا تأدبا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نقتفي أثره وسنته ليقيننا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رسول الله ورسالته القرآن الكريم كاملة لا يزيد عَلَيْهِٰا ولا ينقص.
فالخلاصة هي أن المخالفين أساؤوا فهم الحديث ومناسبته كما هي عادتهم لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لا يحرم ما لم يحرمه الله تعالى في القرآن الكريم الذي ما فرط فيه من شيء و فيه تبيان كل شيء.
وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.