أمرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا إله إلا الله
الملفت في الاستدلال بهذا الحديث أنه يؤتى به من غير سياقه فيؤدي معنى يخالف ما اتفق عليه جميع المسلمين. ألم يجمع الفقهاء المسلمون على أنه لا يجوز أن يُقاتل أحدٌ لأجباره على قول لا إله إلا الله؟!
من هنا فلا يمكن أن يؤخذ الحديث على عمومه، إذ إن هذا العموم يخالف عشرات الآيات القرآنية، وأهمها: (لا إكراه في الدين) (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟!) (لست عليهم بمسيطر)..
إن لفظة (الناس) ليست عامة هنا باتفاق؛ فهي تضم المسلمين وغير المسلمين، ولا يُقال إنها تعني هنا المشركين فقط، لأن هذا التعميم يناقض آية (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللـه ….مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)، فهذا نص يوضح أن الحرب يجب أن تنتهي إذا أعطى أهل الكتاب الجزية، ولم تشترط إسلامهم. ثم إن هذا التعميم يناقض قوله تعالى (لا إكراه في الدين). من هنا فإن لفظة (الناس) خاصة، وليست خاصة بالوثنيين، ولا بالمجوس، لأن هذا التخصيص لا دليل عليه، بل هي خاصة بالمشركين المحاربين، لما ذكرنا من أدلة عديدة في إجابات وكتب ومقالات سابقة.
نعم، لقد اتفق الفقهاء على أنها ليست على عمومها وأنها خاصة، بيد أنهم اختلفوا في تخصيصها.. فقال بعضهم: إنها خاصة بالعرب، وبعضهم قال: خاصة بأهل الجزيرة العربية، وبعضهم خصصها بالكفار من غير أهل الكتاب، وبعضهم خصصها بالكفار المحاربين.. وهذا الأخير هو ما نذهب إليه للأدلة العديدة التي ذكرناها. أما التخصيص بغير ذلك فهو تحكّم في النص من دون دليل.
والأولى أن يُقال إن هذا الحديث لا يتحدث عن الباعث على القتال، بل يتحدث عن الباعث على إيقاف القتال وإنـهائه؛ فالمسلمون لا يحاربون حتى إفناء جيش العدو، بل إن المعركة ستنتهي بمجرد دخول الأعداء في دين الإسلام، أو بدفعهم الجزية كما في نصوص أخرى. بينما كان غير المسلمين يقاتلون حتى إفناء الجيش الآخر أو استعباده.
وهذا الفهم أُخذ من كلمة (حتى) التي تفيد انتهاء الغاية الزمانية في اللغة.
ومن باب ثالث فإن القرآن الكريم انتقد بشدة أولئك الكفار الذين كانوا يمنعون المستضعفين من دخول الإسلام داعيًا إياهم إلى الدخول في مناظرات فكرية، وإلى السماح للآخرين بالتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم بحرية تامة. أتراه ينتقدهم ويوبخهم على هذا، ثم هو يأمر المسلمين بالقيام بالدور نفسه؟ أليس هذا كيلا بمكيالين وانتهازية تنـزّه الله تعالى عنها؟
إن هذا الحديث يعني: لم أؤمر باستئصال المشركين، بل أمرت بقتال هؤلاء الناكثين العهد حتى يدخلوا في الإسلام، فإذا دخلوا فيه فإن الإسلام يجبّ ما قبله.
ولا بدّ أن يكون الرسول r قد قال هذا الحديث في مناسبة، ثم رواه من رواه منـزوع السياق. ويبدو لي أن مناسبته كانت أن احتج بعض المسلمين على عدم القضاء على قبيلة معينة أعلنت إسلامها بعد أن غدرت واعتدت، فقال لهم رسول الله r بما معناه : أمرت بإنهاء القتال إذا اعتنق هؤلاء ناقضو العهد الإسلام، فإن اعتنقوا الإسلام بمجرد تلفظهم فقد ارتفع السيف عنهم. (ويشبه ذلك ما حصل في قصة أسامة عندما قتل من تلفظ بالشهادتين وعاتبه الرسول r كثيرًا، حيث قال له : أقتلته بعد أن قالها)
أي أن الحديث قيل في معرض الحديث عن الامتناع عن تقتيل الكافرين المعتدين وإبادتهم، ولم يُقَل في معرض الحديث عن ابتدائهم بالهجوم لكونهم كفارا.
وقد بيّنا مرارا أن الحديث ليس مصدرا لتأصيل الأحكام، بل هو مصدر لتفصيل ما أُجمل في القرآن الكريم. كما لا بدّ من التنبيه إلى خطورة رواية الحديث من غير ذكر سياقه ومناسبته. وحيث إن هذا ما حدث في مدرسة أهل الحديث، كان لا بدّ من العودة بأي حديث منـزوع السياق إلى القرآن الكريم ليحكم على الحديث.
وفي دراسة هذا الحديث عدنا إلى الآيات السابقة وإلى قوله I (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللـه الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللـه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 191) و(لا يَنـهاكُمُ اللـه عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة: 9)) و(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللـه لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا) (النساء: 91)، فوجدنا هذه الآيات تنقض ما يُفهم من عموم لفظة الناس في الحديث. فكان لا بدّ من فهم الحديث في ضوء هذه الآيات، فجاء هذا الفهم الذي ذكرتُه منسجما مع القرآن العظيم ومع السيرة المطهرة.
منقول
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.