قصة الحَرْث
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (الأنبياء)
يجدر أن نقرأ عدة آيات قبلها وعدة بعدها لندرك السياق .. جاء في تفسير الجلالين: {وَ} اذكر {دَاوُدَ وسليمان} أي قصتهما {إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الحرث} هو زرع أو كرم {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم} أي رعته ليلاً بلا راع بأن انفلتت. وأورد الطبري رواية تشرح {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}، فقال: "فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان غَيْر هذا يا نبيّ الله، قال: وما ذاك؟ قال: يُدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتُدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها، حتى إذا كان الكرم كما كان دَفعت الكرم إلى صاحبه، ودَفعت الغنم إلى صاحبها".
أخطاء هذا التفسير:
ما قيمة هذا الحكم الذي حكم به سليمان عليه السلام؟ هل يستحق التخليد؟ أين الحكمة في هذا الحكم؟ أين العبرة؟ أين الموعظة؟ إنه حكم خاطئ، لأنه إن رعى قطيعُ زيدٍ البالغُ ألف نعجة في مزروعات عمرو التي لا تزيد مساحتها عن ربع الدونم فمن الظلم العظيم أن "يُدفع قطيع زيد كله إلى عمرو". فما تدره الأغنام في يوم واحد قد يزيد عما ينتجه هذا المحصول في سنة! فهذا حكم ظالم لا يقول به عاقل. أما الحكم المنسوب إلى داود فهو أشد ظلما؛ ذلك أنه اقترح أن يستولي صاحب الحرث على الأغنام، من دون أن يسأل عن عدد هذه الأغنام وعن مساحة هذه الأرض المزروعة. إنه حكم متسرع فوضوي غير منضبط.
الحكم الواضح السهل في مثل هذه الحال هو تعويض صاحب الزرع عما لحق به من أضرار بعد تقييمها. وهي مسألة يفقهها أي إنسان، بل أي طفل. وليس هناك من مبرر لسردها في كتاب من عند الله تعالى حتى لو كان الحكم صحيحا، فكيف وهو باطل؟
هذه إحدى مشاكل التفسير التقليدي أنه يسمع القصة من كاذبي أهل الكتاب فيطير بها من دون أن يتعمّق فيما يُبنى عليها. من أين لهم بهذه القصة؟ هل رووها بالسند عن سليمان عليه السلام؟ هل وردت في التوراة؟ هل وجدوها مكتوبة؟ كلا، لا شيء من ذلك. وحتى لو رووها بالسند أو وردت في التوراة لما كان ذلك كافيا لاعتبارها صحيحة ما دامت تتناقض مع العدل، ولكن عدم ورودها في أي مصدر سابق يزيد الطين بلة.
لننتقل إلى التفسير الأحمدي:
يقول الخليفة الثاني للمسيح الموعود عليه السلام: "إن ما أراه هو أن الله تعالى قد بين هنا أنه كلما نال قوم نبي عزًّا سعى الطامعون من بينهم لعرقلة النظام، كما حصل في زمن داود وسليمان، وبدأ أصحاب الطبائع البهيمية في أكل زرع الدين". ويتابع فيقول: "يذكر الله تعالى أنه قد فهّم سليمانَ علاج ذلك، فحمى مملكته ونظامه من هجمات الشعوب المجاورة لبني إسرائيل والتي كانت تريد القضاء على حكمهم من خلال غارات مفاجئة.
مما لا شك فيه أن كلاً من سليمان وداود قد نالا الحكم والعلم، ولكن استراتيجية سليمان بهذا الشأن كانت أفضل. فكان داود عليه السلام رجل حرب، وقد عاقب الظالمين المفسدين بعقوبات شديدة، بل إنه قد قتل ثلثي الرجال في بعض المناطق. ولكن الله تعالى فهّم سليمان أن الرفق بالجيران الآن سيخفف العداوة. فاستعان سليمان عليه السلام عمومًا بالمعاهدات، وهكذا حمى دولته من الجيران جميعًا..... ولكن لما كانت هذه الجملة توهم وكأن الله تعالى لم يعلّم داودَ عليه السلام، فأزال الله تعالى هذه الشبهة بقوله تعالى: {وكُلاً آتينا حُكمًا وعلمًا} .. موضحًا أن تفهيمه تعالى لسليمان لا يعني أن داود كان مخطئًا في موقفه، وإنما قصد بذلك تبرئة ساحة سليمان من تهمة كان يُرمى بها". (التفسير الكبير)
الجديد في التفسير الأحمدي:
تتحدث سورة الأنبياء عن أن الله ينجي أنبياءه ويعينهم على كبريات الأمانات، ويؤيدهم بنصره ضد من يريد هلاكهم من العدو. وقد ذكرت الآيات قصة نوح، ثم قصة داوود وسليمان، فلا بد أن نفهم الحكم في الحرْث على أنه مزرعة دولة جديدة، أو حكم مملكة وسط مَن يحمل معاول هدمها، ويحاول حطمها، فلنفهم النص على مستوى عال يتناسب مع السياق، فالحرث هنا حرث مجازيّ، وليس مجرد مزروعات في حقل! فالله تعالى لم يرسل الرسل لمجرد أن يحكموا في قضايا هامشية، بل لينشروا الدين بما فيه من قيم وأخلاق وروحانية وانقلاب في المفاهيم. فمعنى [يَحْكُمان في الحَرْث] هنا: يقوِّمان أرض الدين ويصحّحان العقائد والمفاهيم. و[نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ].. أي بدأ الطامعون الأشرار بأكل ثمار هذا الحرث وتدمير الدين وقيمه كما ترعى الأغنام الزرع وتدمره.. [وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ].. يعني أن الله شاهد على إنجازاتهما الدينية، [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ] الذي تنبه أكثر من والده داود لهؤلاء الأشرار الطامعين الساعين لتدمير الدين. "فحمى مملكته ونظامه من هجمات الشعوب المجاورة لبني إسرائيل والتي كانت تريد القضاء على حكمهم من خلال غارات مفاجئة".
الآن، نحن أمام وجهتي نظر: الأولى تقول بالحرفية، فاضطُرت لأن تخترع قصة لا أصل لها، ثم هي تسيء إلى الأنبياء والقرآن، ثم لا تعطي أي معلومة مفيدة. والثانية: تقول بالمجاز في كلمتين، وتتفادى هذه النقائص، ثم تربط النص بالتاريخ، ثم تدافع عن سليمان عليه السلام فيما اتُّهم فيه، ثم فيها عبرة أبدية. فأي الوجهتين [أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]؟
الوجهة الثانية تقول: إن المزارع يعتني بزراعته، وإن الأغنام تأتي فتدمرها ليلا. وإن النبي يعتني بجماعته، وإن المنافقين يأتمرون بها ليلا ليستأصلوها. وبدل أن تقول الآيات: "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي قومهما إِذْ أخذ الطامعون والمنافقون يعملون على القضاء على ما بَنَيا من قيم وأخلاق وتعاليم، فقد فَهَّمْنَا سُلَيْمَانَ كيف يتعامل معهم ويقوِّض تآمرهم". بدل أن تقول ذلك قالته بأسلوب أجمل وبكلمات أقل وأكثر دلالة، وهذه هي البلاغة.
القضية ليست كما توهمها المفسرون القدامى الذين ناقشوا نوع المزروعات، فبعضهم قال نَبْتًا، وبعضهم قال كَرْمًا، وبعضهم قال:كرم قد أنبت عناقيده. ثم اختلفوا في حكم داود وسليمان، أكان بوحي أم باجتهاد، ثم إن كان بوحي، فهل في المسألة ناسخ ومنسوخ!!! ثم اختلفوا في حكم هذه المسألة: أي إن رعت أغنام رجل في مزروعات غيره، فما الحلّ، بحيث سوّدوا صفحات في هذه المسألة التي يفقهها ابن الرابع الابتدائي من غير هذه التُّخم!
لعل هذا المثال يقرِّب الصورة في أهمية التفسير الأحمدي وفي تفوّقه على التقليدي وفي نباهته وإحاطته وتقديسه للأنبياء وللقرآن. فالمرويات والقصص الواهية لا يمكن أن تُقدَّم على قداسة القرآن والنبيين.
منقول
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.