وإذ كففت بني إسرائيل عنك

وإذ كففت بني إسرائيل عنك

قوله تعالى (وإذ كففت بني إسرائيل عنك) أي عن قتلك وصلبك. أما مجرد الأذى مهما كان حجمه، فلم يعصم الله منه الأنبياء، بل إن في تضحيتهم واضطهادهم وشجاعتهم في مواجهة الظلم والاستبداد أسوة لنا. ولماذا ينجي الله المسيح من كل أنواع الأذى؟ أهو أفضل من خاتم النبيين الذي شجت رباعيته في معركة أحد؟

إنما هي سنة الله في إرسال الرسل، حيث يعذبهم الكفار الذين يكرهون سماع الحق الذي يتعارض مع مصالحهم الدنيوية.

الكفَّ في أصله أن يهمّ أحد بفعل شيء فيكفّه آخر ويمنعه منه. ويتضمن هذا المعنى أن أوائل أو بوادر أو إرهاصات هذا العمل ستتم، ولكن هذا العمل لن يكتمل. وهذه الآية تشير إلى أن عملا جديا من جانب بني إسرائيل لقتل المسيح عليه السلام قد تم، ولكن الله تعالى قد منعهم من تحقيق هدفهم الذي هو قتله.

وفي القرآن الكريم عبر الله تعالى عن عدم حدوث القتال الشامل بين المسلمين والمشركين في فتح مكة بأنه كَفٌّ، حيث قال تعالى:

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } (الفتح 25)

هذا مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة مقاتلا على رأس جيش كبير من عشرة آلاف مقاتل، كما أن قريشا كانت دائما تعد نفسها للحرب، بل هي من ناوش حلفاؤها من بني بكر حلفاء المسلمين من بني خزاعة. وكان كل من المسلمين والمشركين يظنون أن حربا كبيرة ومقتلة عظيمة ستحدث في بطن مكة باقتراب جيش المسلمين منها.

ولكن عند فتح مكة لم يحدث قتال شامل، وقد قاتل بعض المشركين جيش المسلمين من الجهة التي كان على رأسها خالد بن الوليد، فاستُشهد ثلاثة من المسلمين وقُتل عدد من المشركين الذين روي أنهم كانوا ثلاثة عشر وفي رواية أخرى نيفا وعشرين. ولعل هذا القتال المحدود كان من العوامل التي سببت عدم نشوب قتال شامل، إذ أدرك المعاندون من المشركين عمليا ألا قِبَل لهم بهذا الجيش الكبير، فبادروا إلى الاستسلام وتأمين أنفسهم باتباع تعليمات الأمان التي أعلن عنها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشار الله تعالى إلى هذا القتال المحدود في قوله: “مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ”. ولكن بالإجمال اعتبر الله تعالى أن منع حدوث قتال شامل كما كان متوقعا إنما هو كفّ لأيدي المسلمين عن المشركين وأيدي المشركين عن المسلمين، واعتبر أن هذا القتال المحدود الذي حدث إنما هو مما لا يُذكر مقارنة مع ما كان متوقعا.

كذلك وعد الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم لن يتضرروا من قتال المشركين، ولكنه بيَّن أن هذا الوعد لا يشمل بعض الأذى الذي سيصيبهم والذي منه أن يُستشهد عدد منهم أو يُجرحوا، ولكن النصر والغلبة ستكون لهم في النهاية، فقال تعالى:

{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (آل عمران 112)

وهكذا فإن حدوث الأذى للمسيح عليه السلام، مهما كان بالغا وأليما، فهو لا يذكر مقارنة مع الهدف الذي أراده بنو إسرائيل الذي هو قتله وصلبه ولعنه. فقد أفشل الله تعالى مخططهم بل وجعل هذا الأذى والتعليق على الصليب سببا لكي ينصرف اليهود في فلسطين عنه ويكفوا عنه ويتركوه ظانين أنه قد مات على الصليب وانتهى أمره، ليهاجر لاحقا إلى القبائل العشر الأخرى في الشرق ويبلغهم رسالة ربهم فيقبلوه.

منقول