ويكلم الناس في المهد .. التفسير المقارن
حين يدعو الناس للعروسين يقولون: رزقكم الله ابنا تقيا ذكيا، أو يضيفون بعض الصفات الأخرى التي يدعون الله أن تكون دائمة. لكن لم يدعُ أحد يوما لآخر بقوله: رزقك الله طفلا يتحدث عبارة أو بعض العبارات يوم ولادته، لأن هذا لا يفيده ولا يفيد أحدا.
ما قيمة أن يتكلم ولد بُعيد ولادته؟ وإن حصل، فهل هذا ما يُبشَّر به المرء؟ حين كانت مريم عليها السلام تتبتّل إلى الله جاءت الملائكة وبشرتها بولادة طفل، وبشرتها أن هذا الطفل سيكون له شأن وسيكون وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.. لنقرأ هذه الآيات الكريمة: ]إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (47) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ[(آل عمران).. فهل يُعقل أن تضيف الملائكة بعد أن وصفت المولود بأنه سيكون وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين.. هل يُعقل أن تضيف أنه سيتكلم بعدد من الجمل وهو رضيع؟ ثم تضيف أنه سيتكلم وهو كهل؟ ومَن لا يتكلم وهو كهل؟! وما الجديد في هذا الكلام في الكهولة؟ إن كان كلامه وهو رضيع مثيرًا للبسطاء فما بال كلامه في الكهولة؟ ثم ما هذا الترتيب المقلوب في البشارة؟ لماذا تبشرها الملائكة بأن الطفل سيكون وجيها في الدنيا والآخرة ثم تعود البشارة للتحدث عن مرحلة الرضاع، ثم تعود لمرحلة الكهولة!!
الحق أن هواة الغرائب هم السبب في ترك ظاهر النص ليبحثوا عمّا يمكن أن يثير عشاق القصص العجيبة، أولئك الذين يريدون أن يكون في القصة حدثا غريبا لم يحدث مثله ولن يحدث، أما أن تكون قصة عادية بهدف أخذ العبرة منها فهذا في المقام الثاني عندهم.
الآيات لا تتحدث عما في ذهن العامة، إنها تقول: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بولادة ابن اسمه الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا، أي أنه "سينال الشرفَ والوجاهة العظيمة في أعين الناس في حياته"، وهذه نبوءة أنه لن يموت على الصليب ولن يموت ملعونا، بل سيعيش وينال الوجاهة العظيمة. وكذلك في الآخرة سينال قرب الله، لأنه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وسَيُكَلِّمُ النَّاسَ كلاما عظيمًا مليئا بالعبر والمواعظ فِي مرحلة الشباب التمهيدية، ذلك أن المهد يُطلَق على زمن التحضير والإعداد أيضًا. وهو زمن الشباب، "لأن الإنسان يستجمع فيه شتى القوى ليستهلكها في المستقبل". كما سيتكلم في مرحلة الكهولة بمثل هذا الكلام العظيم. والكهولة هي بين السنّ 33 عاما و50 عامًا، وهذه نبوءة عن هجرته إلى بلاد أخرى ليبلغ دعوة ربه بعد نجاته من الموت على الصليب، أي أن المسيح ستكون له مرحلتان من دعوته، مرحلة المهد ومرحلة الكهولة، في البداية سيدعو في فلسطين، وفي الثانية سيهاجر إلى بلاد أخرى.
لو أكملنا الآيات لازدادت الصورة وضوحًا، حيث يقول الله تعالى فور هذه الآيات التي تبشر مريم: ]وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ[.. وهذا التعليم هو فضل الله عليه الذي سيعينه في تبليغ رسالة ربه في مرحلة المهد ومرحلة الكهولة. ثم إن الآية التالية تزيد الأمر وضوحا، حيث يقول الله تعالى ]وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[.. وهذه هي الأمور التي احتجّ بها المسيح على صدقه، ولو كان قد تحدث في مرحلة الرضاع لقال: واذكروا إذ حدثتكم وأنا رضيع! ألا تتذكرون تلك الحادثة العظيمة التي سمعها كبار شيوخكم فبُهتوا!
أما إنْ ظنّ أحد أن كلامه وهو كهل يشير إلى عودته الثانية فهذا يدل على جهله بمعنى الكهل، الذي يعني مَن كان عمره بين الثلاثين والخمسين، وليس أكثر من ألفي عام الذي هو فوق أرذل العمر.
أيها الناس، لماذا يتكلم الرضيع؟ أتنسبون العبث إلى الله؟ إن قلتم ليدافع عن أمّه وشرفها، قلنا: هذا ليس موجودا في النصّ، بل هو مجرد ظنّ. ثم إن كان لا بد من تبرئة مريم فيمكن أن ينـزل ملاك فيبشر بذلك، وهل كل مَن اتُّهمت زورا بالزنا برَّأها الله بهذه الطريقة العجيبة!
تُرى لو تكلم المسيح وهو طفل أكان كَتَبَةُ الأناجيل يغفلون هذا في كتابة سيرته؟ أيُعقل أن يغفل الرواةُ أعْجَبَ حدث في سيرة الرجل؟ لو حدث مثل هذا لصار حديثَ الساعة لقرون، لا لعقود فقط. ما لكم لا تحكِّمون عقولكم؟ أعِشْقُ العجائب يحول دون تفكيركم؟ أتظنون أن قدرة الله لا تظهر إلا مِن خلال قصص كرتونية؟
إن رواة الأناجيل بالغوا في وصف أحداث أيّما مبالغة، وهوّلوا أيّما تهويل، فهل تراهم ينسوْن ما يستحق التهويل لو حدث شيء منه؟ بل إنّ مِن مشاكل كتب السِّيَر عمومًا المبالغة في وصف الأحداث، أمّا نسيان أهمّ الأحداث وأغربها فلَم يكُنْ مِن مزايا كتابة أي سيرة قطّ، ولن يكون.
منقول
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.