الغاية من خلق الإنسان
الإسلام هو العبودية للخالق والإحسان إلى الخلق
يقول الله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 113)
حيث اختصر في هذه الآية حقيقة الإسلام؛ والتي هي معرفة الله تعالى والتسليم له بالعبودية الخالصة، ثم الإحسان إلى خلق الله تعالى.
وقد اختطَّ الإسلام لتحقيق العبودية لله ثم الإحسان إلى الخلق طريقا فطريا ينسجم مع طبيعة الإنسان. فالواجب أن يعرف الإنسان صفات الله تعالى، وأن يعمل على تمثُّلها، ويسعى لتقليدها، بحيث تنعكس صفات الله تعالى فيه، وتصبح إرادته ومشيئته ورغباته متوافقة مع الله تعالى، ويفيض الحمد والشكر من أعماق قلبه وكيانه إعجابا بصفات الله الحسنى واعترافا وإقرارا بإحسانه على العبد، مما يولِّد حبا فطريا مرجعه هذا الحسن والإحسان الإلهي العظيم. وهذا هو معنى العبودية، إذ إن معنى العبودية هو ترك الأثر المعبود في العبد وتنفيذ الإرادة والانقياد الكامل بدافع الحب. وتعتبر هذه العبودية حقا لله على الإنسان واجب الأداء. وتأدية هذا الحق هي في الحقيقة الغاية من خلق الإنسان الذي لم يخلق إلا لها؛ حيث يقول تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات 57).
وكما أنّ الله تعالى هو المحسن إلى الخلق، الرحمن الرحيم، واهب كل القوى والنعم لهم، فمقتضى العبودية يفرض أن يكون العبد محسنا إلى الخلق منفذا مشيئة ربه، متفانيا في خدمتهم بكل ما وهبه الله تعالى من قوىً ونعم. فلا يمكن أن يكون عارفا بالله، قائما بواجب العبودية، مؤديا لحق الله تعالى، إلا إن كان متفانيا في الإحسان لخلقه، معتبرا هذا الإحسان حقا لهم، واعيا أن ما أولاه الله من قوىً ونعم هي في الواقع أمانات واجبة الأداء إلى خلقه، وليست حقوقا مكتسبة نالها عن جدارة واستحقاق ولا حق للآخرين فيها!
فكما أن الله تعالى قد خلق الشمس وجعل البشر جميعا ينعمون بضوئها ودفئها، وخلق الأرض وجعلها مهادا للبشر جميعا، وخلق الهواء ليتنفسه الناس جميعا دون تمييز، فهكذا ينبغي أن يعامل المؤمن خلق الله فيما بين يديه من خيرات، بحيث يكون مقلدا لربه وعبدا حقيقيا له منفذا لمشيئته.
وهكذا فالإسلام ليس إلا تأدية حقوق الله وحقوق العباد بكل تفانٍ، ولا يمكن أن يكون المسلم مسلما حقيقيا إن لم يكن متفانيا في العبودية لله تعالى وفي خدمة خلقه، معتبرا أن هذه حقوق وأمانات واجبة الأداء عليه. وتحت هذا الإطار تندرج الشريعة كلها من عبادات وأوامر ونواهٍ.
وقد أكد الله تعالى أن المسلم المؤمن المحسن المطبق للإسلام الحق، وفقا لهذا المفهوم، هو الذي ستكتب له النجاة وسيحقق الفلاح في الدنيا والآخرة، وأن الله تعالى بنفسه قد ضمن له الأجر عنده، وأنه لن يحزن على ما فاته ولن يخاف من المستقبل، لأنه قد أصبح في كنف الله تعالى وتحت رعايته الخاصة. وبهذا فقد بشَّر الله تعالى المؤمن المحسن بالأمن والسكينة والطمأنينة، وهي الغاية المنشودة الأولى التي يطمح إليها الإنسان دوما، كما جعله سببا في جلب الأمن والسلام والسكينة والطمأنينة للعالم.
لقد حوَّل الإسلام، بهذا المفهوم، نظرة الإنسان بشكل جذري من السعي لتحصيل الحقوق والاقتتال والخصام من أجلها إلى السعي الدائم الدءوب نحو تأدية حقوق الآخرين لديه. وهذه النقطة هي نقطة مفصلية جوهرية في تعاليم الإسلام تؤدي إلى نزع فتيل الخلافات بين الأفراد والأقوام. فليس محبذا في الإسلام أن يبقى الإنسان منشغلا في السعي نحو تحقيق حقوقه، أو ما يظن أنها حقوقه، والمطالبة بها، بل المطلوب أن يؤدي الأمانات التي في عهدته وأن يكون مستعدا لملاقاة الله تعالى في أي لحظة بريئا من كل ديْن في عنقه. أما ما يحتاجه فينبغي ألا يراه حقا مكتسبا له، وأنه أصبح حقا على الله تعالى أن يؤتيه إياه، بل الواجب أن يطلبه منه تعالى طلب المحتاج المضطر إلى إحسان ربه، ثم يحمد الله تعالى ويشكره على هذه النعم التي يجب أن يشعر بأنه لا ينالها عن استحقاق وإنما عن منَّة وفضل إلهي.
إن هذا المفهوم وهذه الرؤية هو وحده الذي يمكن أن يكفل للإنسانية الأمن والسلام. فلو طبق البشر الإسلام، دين الإحسان، وفقا لهذا المفهوم، لرأى العالم مشهدا رائعا من تفاني الأفراد والجماعات في السعي لخدمة غيرهم ورفع المعاناة والآلام عنهم، وتحقيق حقوقهم، والإحسان إليهم بكل ما أوتوا من قوى ونعم وخيرات، ولحُلَّت أعقد القضايا والمشاكل في المجتمع الدولي، ولتحقق السلام الدائم والأمن في العالم أجمع. وهذا ما نؤمن أنه سيتحقق يوما، إن شاء الله تعالى، بفضل الله تعالى ورحمته. ولكن نخشى أن يشهد العالم مزيدا من الويلات والتجارب المؤلمة التي شهدها وما زال يشهدها بسبب غياب مفهوم الإسلام الحق من العالم بين المسلمين وغيرهم.
وإن الغاية من خلق الإنسان هي ليحاول التمثل بصفات الله ويكشف عنها ويبديها ويكون مَظْهراً له في الأرض يعرف به ويطلع عليه أهل الدنيا الذين لم تكن تسمو بهم نفوسهم فيعلو بهم إلى حظيرة القدس. هذه هي سنة الله المستمرة من يوم خلق الخلق إلى يومنا هذا. وقد بعث الله تعالى هؤلاء الذين كانوا مَظْهراً له في عصور مختلفة. فمرة تجلت صفاته تعالى في آدم وطوراً في نوح وتارة في إبراهيم وأخرى في موسى، ويوماً أبان داؤد عن وجهه سبحانه، وحيناً أظهر المسيح أنواره، وأخيراً أرانا محمد - صلى الله عليه وسلم - صفاته - عز وجل - كاملةً وبأجلى وضوح بالإجمال والتفصيل والجزئيات والكليات والجمال والجلال بحيث تضاءلت أنوار الأنبياء السابقين إزاء شمسه البازغة تضاؤُلَ النجوم أمام شمس النهار. ولقد خُتمت الشرائع بأجمعها بعد شريعته الغراء وانسد طريق الأنبياء المشرِّعين كلهم، انسدادا لا محاباة فيه ولا انحياز للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما انسد طريقهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - جاء بشريعة وافية بالحاجات كلها وكفيلة بجميع المقتضيات.
نسأل الله تعالى أن يجنب العالم هاوية جديدة، وأن ينعم على العالم بإدراك مفهوم الإسلام وتطبيقه، آمين.
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.