الأعراف .. المعنى الصحيح
جاء في مقدمة تفسير سورة الأعراف في التفسير الوسيط ذي الخمسة مجلدات:
فالقرآن المجيد لا يؤيد تفسير كلمة "الأعراف" بأنه المكان الذي يكون فيه الناس من ذوي الدرجة الروحية المتوسطة بين أهل الجنة وأهل الجحيم. وليس هناك من دليل في الآيات التي جاءت فيها هذه الكلمة يؤيد هذا التفسير. فالقرآن المجيد يصوّر لنا أن القوم الذين على الأعراف يخاطبون حينا أهل الجنة ويخاطبون حينا آخر أهل النار، وأن معارفهم الروحية واسعة وشاملة حتى إنهم يستطيعون أن يتعرفوا على أهل الجنة بسيماهم، وأيضا يستطيعون أن يتعرّفوا على أهل النار بما فيهم من علامات خاصة بهم. وهم يلومون ويوبّخون أهل النار، كما أنهم يدعون لأهل الجنة، كما جاء في الآيات 47، 49، 50. فهل يمكن للشخص الذي يكون هو نفسه معلقا في مرحلة من عدم اليقين بين أهل الجنة وأهل النار أن يتصرّف بهذه الروح من السمو والعظمة التي يبدو فيها أولئك الناس الذين هم على الأعراف؟ إن الحقيقة تنطق بأن رجال الأعراف أولئك هم أنبياء الله تعالى، الذين يشغلون مكانة عالية سامية يوم القيامة، وسوف يدعون لأهل الجنة ويوبخون أهل النار. ولما كانت السورة الحالية هي الأولى بين سور القرآن المجيد التي جاء فيها ذكر قصص حياة الأنبياء بشيء من التفصيل، فقد سُمّيت بسورة الأعراف باعتبار المكانة العالية والدرجة الرفيعة السامية التي وصل إليها رسل الله تعالى.
وبالإضافة، فإن تركيب كلمة "الأعراف" نفسه يؤيد هذا الرأي. فكلمة "الأعراف" جمع لكلمة "عُرْف" وهي تعني المكان المرتفع (موسوعة لين), وبالمثل، فإن كلمة "عرف" تعني أيضا المعرفة الروحية التي ينالها المرء من خلال فطرته النقية التي فطره الله عليها وما أضفاه سبحانه عليه من ملكات ومواهب تجلت في نفسه وضميره. وعلى هذا فإن "الأعراف" تعني أيضا تلك التعاليم السامية التي أرست قواعد الحق بالأدلة العقلية والمنطقية، والتي شهدت بها الطبيعة الإنسانية. ولما كانت تعاليم الأنبياء هي التي تتصف بجميع هذه الخصال، فإنهم.. أي الأنبياء وحدهم.. هم الذين يستحقون هذا المقام الروحي العظيم. وعلى هذا فإنهم بحق يستحقون أن يوصفوا بأنهم "أصحاب الأعراف". إن مقامهم الروحي السامي العظيم يعني أنهم، بالإضافة إلى أفضال الله تعالى عليهم، اتّخذوا مواقفهم على أرض صلبة، من شهادة الطبيعة البشرية ومن العقلانية. ولا شك أن مثل ذلك المقام العظيم لهو أبعد من أن يناله الأشخاص العاديون.
وباختصار، إن سورة الأعراف قد سُمّيت بهذا الاسم لأن فيها صورا لقبسات من حياة أولئك الرجال العظام الذين نالوا أرفع الدرجات الروحية، والذين قاموا في الماضي بتعليم البشرية الحقائق الأزلية التي تتفق مع متطلبات الطبيعة الإنسانية والمنطق الإنساني، والذين قاومهم الناس في هذه الحياة الدنيا وأرادوا لهم الخسار والبوار، غير أن الله تعالى لم يرض لهم أن يلقوا هوانا ولا اندحارا، وإنما رفع درجاتهم إلى أعلى عليين. اهـ
من المعروف أن أصحاب الشأن والعظماء هم الذين ينالون المنازل الرفيعة العالية وليس من هم دونهم. ورد في تفسير الطبري :
" وأما قوله: (وعلى الأعراف رجال)، فإن " الأعراف " جمع، واحدها " عُرْف ", وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو " عُرْف ", وإنما قيل لعُرف الديك " عرف ", لارتفاعه على ما سواه من جسده... وكان السدي يقول: إنما سمي" الأعراف " أعرافًا, لأن أصحابه يعرفون الناس...- حدثني بذلك محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: - حدثنا سفيان بن وكيع, قال: حدثنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد, سمع ابن عباس يقول: " الأعراف "، هو الشيء المشرف. - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول, مثله. - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي, عن سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: " الأعراف "، سور كعرف الديك. - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن جابر, عن مجاهد, عن ابن عباس, مثله. ".
اذاًً، فالعرف أو الأعراف هو لفظ يعني العلو والسمو والتشريف وهو مشتق من المعرفة وتعني المنزلة العالية ينالها رجال الأعراف وتخولهم خاصية معرفة الناس بسيماهم ولذلك وردت الأقوال حول الحاجز أو التل المرتفع الذي يفصل بين الجنة والنار أي أن يعرف من في هذه المكانة الرفيعة رجال الجنة والنار بسيماهم ومنه عرف الديك الذي إنما يكون على رأس الديك ويعني الارتفاع والتميز ولذلك كانت الجنة منازل وليس منزلا واحدا مثل الفردوس الأعلى وعليين وغيرها. هذه الميزة والمكانة الخاصة بمعرفة أصحاب الجنة والنار تتفق وتستقيم مع المنزلة العالية التي عليها رجال الأعراف. ولنقرأ ما ورد في تفسير الطبري عن هوية رجال الأعراف :
" وقال آخرون: بل هم قوم صالحون فقهاء علماء. ذكر من قال ذلك: - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن مجاهد قال: أصحاب الأعراف، قوم صالحون فقهاء علماء. وقال آخرون: بل هم ملائكة وليسوا ببني آدم. ذكر من قال ذلك: - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي مجلز قوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، إلى قوله: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قال: فنادى أصحاب الأعراف رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ . أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ، قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ .- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران قال: قلت لأبي مجلز: يقول الله: (وعلى الأعراف رجال)، وتزعم أنتَ أنهم الملائكة؟ قال فقال: إنهم ذكور، وليسوا بإناث. - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال)، قال: رجال من الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم, أهل النار وأهل الجنة, وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة. - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن أبي عدي, عن التيمي, عن أبي مجلز, بنحوه. - . . . . وقال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن التيمي, عن أبي مجلز قال: أصحاب الأعراف، الملائكة. - حدثني المثنى قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، أخبرنا التيمي, عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال)، قال: هم الملائكة. - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال)، قال: هم الملائكة. قلت: يا أبا مجلز، يقول الله تبارك وتعالى: " رجال ", وأنت تقول: ملائكة؟ قال: إنهم ذُكران ليسوا بإناث. - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز في قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، قال: الملائكة. قال قلت: يقول الله " رجال "؟ قال: الملائكة ذكور. ".
تركزت الأقوال أعلاه حول العلماء والفقهاء والصالحين والملائكة وجاء التشديد على [ رجال ] لأن الأنبياء كلهم من الرجال و لا يمنع أن يكون معهم من هم دون النبوة وإنما كان التخصيص للمعرفة والتمييز كقولنا ( هذه الدار خاصة لاستقبال الملوك ) ولا نعني بالضرورة أن لا نستقبل الوزراء والحاشية أيضاً بل لتمييزهم عن باقي الضيوف. وورد لفظ الأنبياء في تفاسير أخرى وهي بمجملها تنطبق على الأنبياء حقاً وليس من استوت حسناته مع سيئاته إذ لا معنى لعلو المنزلة والشأن ولا معرفة الناس بسيماهم لأن تلك ليست إلا آراء المفسرين بنوها بتصورهم وأفهامهم حسب روايات منقطعة كما يقول الطبري معلقاً في تفسيره حول ما ورد من مرويات :
" قال أبو جعفر: والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جل ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كُلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم, ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصح سنده ،ولا أنه متفق على تأويلها, ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكة. فإذ كان ذلك كذلك, وكان ذلك لا يدرك قياسًا, وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن " الرجال " اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق غيرهم, كان بيِّنًا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة، قولٌ لا معنى له, وأن الصحيح من القول في ذلك ما قاله سائر أهل التأويل غيره. هذا مع مَنْ قال بخلافه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار، وإن كان في أسانيدها ما فيها.. ". انتهى
أي أن القول حول الأعراف ليس محل إجماع بين المفسرين ولم يصح سند أياً من المرويات المذكورة وإنما يستأنس بها في التفاسير كما هو معروف لدعم رأي صاحب التفسير لا غير. ولكن نكاد أن نجد اتفاق المفسرين حول الميزة التي يتمتع بها رجال الأعراف من معرفة أهل الجنة والنار واحتلالهم للمنازل العالية الرفيعة وهو ما نستدل به بعد عرض الأقوال على أن هؤلاء هم الأنبياء (عَلَيهِم السَلام) الذين وُصِفوا بالرجال [جنسا] والملائكة والعلماء وفي اقوال هم الشهداء ونحو ذلك، وليس فيه استقامة مع من هم في حال من التردد والخوف من سوء المصير كما لا معنى لرفع منزلة هؤلاء على أصحاب الجنة تحتهم من النبيين والصديقين والشهداء.
أما قوله تعالى { لم يدخلوها وهم يطمعون } فهي عائدة على الذين لم يدخلوا الجنة بعد ويطمعون في ذلك، أي أن رجال الاعراف (الأنبياء) يعرفون الناس كلاً بسيماهم أي من مراتبهم وَمَا يبدون عليه، فيميزون بسبب هذه القدرة التي خصهم الله تعالى بها يميزون بين الذي سيدخل الجنة من غيره رغم أن هؤلاء لا زالوا بعد في النار ولكنهم سيخرجون بعد استيفاء ذنوبهم ليدخلوا الجنة مع إخوانهم. ويتضح ذلك في الآيات اللاحقة حيث يتبين أن أصحاب الاعراف يطلعون على أهل النار ويتعرفون عليهم بعد أن دعوا الله أن لا يبقيهم فيها مع القوم الظالمين فيوبخ أهل الأعراف من في النار من مجرمين بسبب ظنهم أن هؤلاء لن تنالهم رحمة الله تعالى وأنهم باقون في العذاب المهين ثم يقولون لمن عرفوهم ادخلوا الجنة آمنين كما في قوله تعالى : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ }، فمن له السلطة على تمييز الكافر من المؤمن ثم يخبره بمصيره ؟ هذه هي ميزة أهل الأعراف أي أهل المعرفة والتمييز والمكان الرفيع.
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.