هو مِن عند الله .. التفسير المقارن
لو سأل طفل أمَّه في قريتي: مِن أين هذه الفاكهة أو ذلك الطعام، فإنه تجيبه من فورها: "اللهُ يَسَّر". ولو طلبَتْ منه ماء لقالتْ بعد الشرب: "الحمد لله الذي سقانا"، مع أن ظاهر الأمر أن ابنها ناولها الماء. وإذا اشترى لها زوجها طعاما لقالت: "الحمد لله الذي أطعمنا". وإذا أنهت موسم الزيتون قالت: "الحمد لله الذي أعاننا"، مع أن الظاهر أنها هي وزوجها وأولادها من قاموا بالعمل.
الأتقياء والصالحون ينسبون كل خير لله، وفي هذا يقول الله تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وما أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكْ}؛ فكل حسنة من الله، وكل رزق من عند الله.
هذا كله معروف بداهةً، ولا يخطر ببال أحد أن يقول لهذه المرأة: كيف تقولين أن الله يسَّر هذا مع أني رأيت فلانا قد أتى به إلى البيت!
لكن اللافت أنه إذا قالت مثل عبارتها امرأةٌ من الأمم السابقة أو من بني إسرائيل فيتغيَّر كل شيء!! فإذا قالت: الحمد لله الذي سقانا، فمعنى ذلك أن الماء نزل من السماء للتوّ!! وإذا سألْتَها: من أين هذا الرزق، فقالت: هو من عند الله؟ فمعنى ذلك أنه نزل من السماء عن طريق الملائكة التي حملته وطارت به إليها!!
فلماذا الكيل بمكيالين؟ لماذا ينسبون الغرائب إلى السابقين؟ لماذا يتعاملون مع النصوص بطريقتين؟
لماذا فسروا هذه الآية ]كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ[.. لماذا فسروها أن هذا الرزق نزل من السماء؟ لماذا لم يقولوا إن مريم التقيَّة النقيَّة الورِعة منذ طفولتها تنسب الفضلَ إلى الله على غير عادة الأطفال؟ لماذا لم يقولوا إن الآية تشير إلى أن هذا السؤال مجرّد امتحان من زكريا ليأخذ فكرة عن ورعها وتقواها وفهمها؟ لماذا لم يقولوا إن هذا الجواب أدّى بزكريا عليه السلام أن يدعو ربه أن يهبه طفلا مثل هذه الطفلة العظيمة؟ لماذا لا يستنتجون أنها لو قالت إن هذا الرزق تساقط من السماء فإن هذا لا يبعث على السؤال أن يرزقه الله ولدا مثل هذه الطفلة، بل يبعث على أن يسأل الله أن يُهبِط عليه الفواكه والخضار كما يُهبطها على مريم؟ أو سيبعثه على الاستغراب من نـزول هذا الرزق من السماء عليها وحدها من دونه، وهو النبي التقيّ النقيّ. لماذا يُفرغون القصة من مضمونها على حساب الغرائب والعجائب؟ إذا كان الطعام ينـزل لمريم فلماذا لا ينـزل الآن؟ لماذا لم ينـزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو محاصَر في الشِّعْب؟ أليس هو أولى أن يَتَسلَّم أطباق السماء وهو المحتاج جدا إليه حتى أكل نوى التمر؟ أما مريم فلا تحتاج حلويات السماء ولا فواكهها، فأهلها وأقاربها وجيرانها لا يقصِّرون.
من أين أتى الطبري بقوله: "وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان -فيما ذُكر لنا- يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى:"أنَّى لك هذا"؟ فتقول: من عند الله". (الطبري). ما مبرر المبالغة هذه؟ لماذا يغلق عليها سبعة أبواب؟ أليتأكد؟ ألا يمكنه أن يسألها من دون إغلاق هذه الأبواب السبعة؟ أمعروفة هي بالكذب حتى يضطر لإغلاق هذه الأبواب كلها ليتأكد؟ ثم من أين يؤتى بأبواب سبعة؟
فيا أيها الناس، اعلموا أن كتاب الله يأتي بقصص السابقين من أجل أن نعتبر منها، لا لمجرّد القصّ المسلّي. القصة لا تزداد عظمةً بغرابتها، بل بِعِبَرها ومواعظها. وإذا كانت القصة في الماضي تختلف كليًّا مع ما يمكن أن يحصل في هذه الأمة فأي عبرة تؤخذ منها؟
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.