إن الله يأتي بالشمس من المشرق
في سورة يس يعدد الله تعالى آياته في هذا الكون، فيذكر من ضمنها الشمس وجريانها في مستقر لها، ويبين أن الليل لا يسبق النهار ولا العكس، وأن الشمس والقمر ومختلف النجوم والكواكب تَسْبَح في الكون بدقة لا مجال لانعكاسها ولخبطتها. يقول الله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (40) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (41) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس)..
هذه الآيات محكمة وواضحة، ولم يُعهد أن الله نقضها ليكون ذلك علامة على صدق نبيّ، اللهم إلا رواية توراتية خرافية تقول إن الشمس وقفت حتى فتح يوشع بن نون فلسطين، مع أن يوشع ليس نبيا. ولا أدري كيف يمنعه الليلُ من فتحها، وإن لم يفتحها نهار اليوم فليؤجل ذلك لنهار الغد، فهذا الفتح ليس مستعجلا لهذه الدرجة، فالذين صبروا أربعين سنة يتيهون في سيناء يمكن أن يصبروا يوما آخر.
اضطررتُ للتحدث عن هذه المسلَّمات لأنه كانت قد وصلتني رسالة تقول إن آية الخسوف الخاصة بالمهدي ستكون في مطلع الشهر، يعني سينخسف القمر في أول ليالي الشهر. مع أن الخسوف يعني أن يُظلم البدر ليلا، وهذا لا يحدث إلا إذا حجبت الأرض أشعة الشمس عن القمر. وهذا يحدث عندما تكون الأرض بين الشمس والقمر على نفس المستوى. وهذا لا يكون إلا إذا كان القمر بدرا.. أي في منتصف الشهر. فالخسوف لا يحدث إلا ليالي 13، 14، 15 من الشهر.
وكنتُ ظننتُ أن المسألة انتهت، بيد أنه وصلتني اليوم رسالة فيها استدلالٌ غريب من آية لم يكن يخطر بالبال أن يُستدلّ منها مثله.. هذه الآية هي قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.. وملخص تفسيرها عند صاحبنا أن إبراهيم ناظر النمرود، فلم يستطع إبراهيم أن يقنعه بمسألة أن الله يحيي ويميت، إذ إن النمرود قد جاء بشخص فقتله، وجاء بمحكوم عليه بالإعدام فعفا عنه، فبهذا صار يحيي ويميت. فلجأ إبراهيم إلى دليل قاطع بَهت النمرود، حيث إن إبراهيم عليه السلام جعل الشمس تطلع من المغرب، وقال للنمرود: هيا اجعلها تطلع من المغرب كما فعلتُ بإذن الله. فهنا بُهت النمرود.
ودليل صاحبنا على ذلك أن إبراهيم لو اكتفى بالقول فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، لقال له النمرود: بل أنا من يأتي بها من المشرق فقل لربك أن يأتي بها من المغرب، وحينها سيُبهت إبراهيم لا النمرود.
نقضُه للتفسير التقليدي جيّد بحد ذاته، لأن التفسير التقليدي خاطئ بلا شك، ولكنه فرّ من تناقض ليقع في ثلاث إشكاليات: أولها أن تحريك الشمس أو الأرض بعكس اتجاهها يتناقض مع آيات سورة يس آنفة الذكر، وثانيها: اعتباره أن إبراهيم عليه السلام قد فشل في المحاجّة الأولى وبُهت.. أي أنه لم يستطع أن يقيم الحجة على النمرود!! فلماذا لم يقفز إلى المحاجّة الثانية مباشرة من دون أن يتعرض لهذا الإحراج؟ هل كان يجهل هذه القضية البسيطة؟ وثالثها: أن تحريك الشمس أو الأرض بعكس الاتجاه هو الحدث الأبرز في هذه المحاجة لو حصل، فكان يجب أن يُذكر. وعدمُ ذكره في هذا السياق دليل على عدم حدوثه.
وقد تساءل الخليفة الثاني رضي الله عنه في تفسيره الكبير عن عدم احتجاج النمرود بقوله: أنا من يأتي بالشمس من المشرق فقل لربك أن يأتي هو بها من المغرب، ولكنه لم يصل إلى نتيجة أن إبراهيم عليه السلام قد حرك الشمس عكس ما هي عليه، هذا على فرض أن الشمس هي التي تدور حول الأرض!! وقبل نقل تفسيره لا بد بداية من قراءة الآية في سياقها: الآيةُ التي تسبقها تتحدث عن أن الله يهدي المؤمنين، وأن الطاغوت يُضل الكافرين. قال تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.. فلا بدّ أن يكون موضوع محاجة إبراهيم متعلقا بالهداية والإحياء الروحاني لا المادي، فهو حين قال للنمرود: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. لم يكن يستدل على أن الله هو الذي يحيي الناس ويميتهم، فهذا ليس دليلا قائما بذاته على الملحد أو من يزعم أنه إله، فلو أنت حاججتَ ملحدا اليوم، فهل تقول له: من أدلة وجود الله أنه يحيي ويميت!! هذه ليست حجة عليه؛ فهو لا يؤمن بالله، ويرى الناس يموتون طبيعيا أو قتلا، ويرى الأطفال يولَدون، ويرى أن كل ذلك حسب الطبيعة. فكيف يؤمن أن الحياة والموت بيد الله بمجرد أن تذكر له ذلك؟
لقد ذكر إبراهيم عليه السلام للنمرود أن الإحياء الروحاني والإماتة الروحانية بيد الله، والمقصود: أن النصر والهزيمة بيد الله، فالله هو الناصر وحده؛ ذلك أن الله تعالى قد وعد إبراهيم بأنه سينال ملك كنعان، وهذا النمرود يسخر من ذلك، فإبراهيم عليه السلام يقول له: إن الله قادر على تحقيق ذلك. فقال النمرود: بل أنا من يحقق كل شيء في هذه الحياة، وأنا أقدر على قتلك وقتل من أريد، وقادر على أن أنصر من أريد وبيدي كل شيء.
يقول الخليفة الثاني في تفسير هذه الآية: "لقد وعد الله إبراهيم بأرض كنعان وبازدهار أولاده، لذلك قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت.. أي هو سبحانه متصف بصفتي الإحياء والإماتة.. يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويجعل النجاح لمن يشاء والفشل لمن يشاء، ويكتب الغلبة لمن يشاء ويلحق الهزيمة بمن يشاء. فقال الملك أنا أحيي وأميت أي في يدي هذا الخيار أيضا، أعز من أشاء وأذل من أشاء. وكما ذُكر سابقا أنهم كانوا يعتبرون الشمس أكبر آلهتهم، وكان الملك نفسه يعبدها.. لذلك رد عليه إبراهيم بأن لله قانونا يحكم الشمس، فيأتي بها من المشرق.. فإذا كنت تملك نفع الدنيا وضرها.. فها هي الشمس بازغة أمامك تسير نحو الغرب، فأرجعها من الغرب إلى الشرق، ليكون ذلك دليلا على قدرتك على التصرف في أمور العالم وفي الشمس أيضا. أي إذا كنت أنت الذي تملك زمام هذا العالم نفعا وضرا، فماذا تفعل الشمس إذن؟ وإذا كانت الشمس تنفع وتضر الناس فدعواك بأنك تملك التصرف في العالم باطلة".
وهنا وقع النمرود بين خيارين أحلاهما مرُّ، "لأنه لو أجاب فإما أن يقول: إنني لا أملك النفع والضر، ولكن الشمس هي التي تملك ازدهار الناس وانحطاطهم. ولو قال ذلك لبطلت دعواه أنه هو يحيي ويميت، وإما أن يقول: أنا الذي أتصرف في نفع الناس وضرهم لا الشمس.. فيثور قومه على هذا القول، لأنهم يعبدونها، وهو أيضا كان يعبدها. ولهذا قال الله تعالى فبهت الذي كفر.
وبهذا الحادث دلّل ربنا سبحانه على صدق قوله الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وبيَّن كيف أنه عز وجل ينجي عباده من المشاكل، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم من الفشل إلى النجاح." (التفسير الكبير).
فيا عباد الله، اقرءوا الآيات في سياقها، ولا تضربوها ببعضها، ولا تَنْقُضُوا غَزْلَكُمْ أَنْكاثًا.
منقول
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.