رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى
هذا ما جاء في التفسير الكبير لحضرة الخليفة الثاني حضرة ميرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(261)
شرح الكلمات:
صُرهن-صار يصور الشيءَ إلى نفسه: أمالَه إليه. وصار الشيءَ –بدون حرف الجر إلى: قطعه (الأقرب). (صرهن إليك) يعني أمِلْهُنَّ إليك، من الصَّوْر أي الميل (المفردات). فالمعنى: ألِّف هذه الطيور معك.
التفسير:
يقول الله تعالى: تذكَّرْ عندما قال إبراهيم: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى. فقال: أولم تؤمن؟ قال: بلا، أي أؤمن إيمانا كاملا أن الله يحيي الموتى، وهو قادر على ذلك ولا شك أبدا. ولنتذكر أن أداة (بلى) سواء سبقها نفي أو إثبات، فهي تفيد الإثبات. أما (نعم) فتفيد الإثبات والنفي. فلو أجاب إبراهيم هنا بنعم، لكان المعنى لا أؤمن، أو نعم أؤمن، ولكن بقوله (بلى) أزال كل شبهة للنفي، وبيّن أنه مؤمن حقا.
وبعد ذلك قال (ولكن ليطمئن قلبي).. فاستدرك بحرف (لكن) أي أنني أومن بقدرتك على إحياء الموتى. كل ما في الأمر أني أريد شيئا زائدا.. أريد أن يطمئن قلبي بأن الله سوف يحيي قومي بصفة خاصة. ومثال ذلك أن يكون هناك مريض، وهو يؤمن أن الله قادر على شفاء المرضى، ولكنه لن يطمئن أن الله سوف يشفيه هو أيضا.. ما لم يخبره الله بذلك، أو مثلا كل واحد يعرف أن الناس يشبعون بعد الجوع، ولكن هل هذا العلم يجعل أحد الجائعين يستيقن أنه سينال طعاما وأنه نفسه سوف يشبع؟ فالإيمان يتعلق بأمر غيبي مختفٍ عن نظر المؤمن، ويدل على يقينه الكامل بحدوث ذلك الشيء أو إمكانية حدوثه. أما الاطمئنان فإنه يأتي إزاء الشك أو الكرب والاضطراب. في الآية هنا لا يراد بالاطمئنان ذلك الذي يكون إزاء الشك، وإنما الذي يكون إزاء الكرب والاضطراب، ذلك لأن إيمانه ثابت مما قاله آنفا. كان إبراهيم مؤمنا بأن الله قادر على إحياء الموتى، ولكنه كان يريد أن يزول اضطرابه ويطمئن أن الله سوف يتجلى بقدرة الإحياء على قومه، ويحييهم مرة أخرى من فضله.
فقال الله له: خذ أربعة من الطير، وعامِلْها بتودد حتى تألفك، ثم ضعْ جزءا منها على كل جبل، ثم ادعها فتسرع إليك. واعلم أن الله غالب وذو حكمة.
يقول المفسرون إن الله تعالى أمر إبراهيم أن يأخذ أربعة من الطير ويفرم لحمها، ثم يضمه إليه، ثم يوزعه على الجبال. ولكن هذا المعنى خطأ ومخالف للأسلوب العربي. ذلك أنه لا معنى لأن يفرم المرء الطيور ويضم لحمها إليه. فالمعنى الصحيح هو أمِلْهُن إليك وألِّف بينها وبينك. كما ورد في المفردات والأقرب.
ويستدل البعض بكلمة (جزءا) على أن المراد هو فرم لحم الطير، ثم يأخذ جزءا من هذا اللحم المفروم ويجعله على الجبال؛ وهذا أيضا خطأ. فليس المراد جزءا من لحم الطيور، وإنما المراد جزء من هذه الطيور الأربعة، أي واحد منها.. بمعنى: ضعْ كل واحد من هذه الطيور على جبل. ونظير ذلك في القرآن الكريم: (إن جهنم لموعدهم أجمعين. لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) (الحجر45,44). أي أن لكل باب من أبواب جهنم جزءا من هؤلاء الكفار. لا يفسر أحد كلمة جزء هنا أن يفرم لحم الكفار ويخلطه ويُؤخذ جزء منه إلى كل باب من أبواب جهنم، بل أجمع المفسرون على أن بعضا من هؤلاء الكفار يدخلون من باب، والبعض الآخر من باب ثان، وهكذا (روح البيان). فقد بيّنت هذه الآية معنى (جزء) ووضحت أن الجزء من جماعةٍ فردٌ أو عدد من أفرادها. وفي آيتنا هذه (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) لا يعني جزءا من اللحم المفروم؛ بل المراد ضع طائرا منها على جبل، وثانيا على جبل ثان.. وهكذا.
لو أخذنا بالمعنى الظاهري لكان محلا لاعتراضات كثيرة. أولها: ما علاقة إحياء الموتى باستمالة الطيور؟ثانيا: لماذا أربعة طيور، ألا يكفي واحد لتحقيق الغرض؟ ثالثا: ما الفائدة من وضعها على الجبال؟ ألا يكفي أن توضع في أي مكان آخر؟
الحقيقة أنه لا يمكن أخذ الكلام هنا حرفيا، وإنما له مدلول مجازي. لقد دعا إبراهيم: يا رب، لقد عهدتَ إليَّ بمهمة إحياء الموتى، فحقِّق لي هذه المهمة، وأرِني كيف تنفخ الروح في قومي. لقد أصبحت شيخا كبيرا، والمهمة ضخمة. فقال الله: ما دمنا قد وعدناك فلسوف يتحقق هذا الوعد. قال إبراهيم: أعلمُ أن هذا سوف يتحقق، ولكن أسألك على سبيل الاطمئنان، كيف تتغير هذه الأحوال غير المواتية؟ قال الله: عليك بتربية أربعة من أولادك، ليلبوا نداءك، ويكملوا مهمتك من إحياء القوم. وهؤلاء الطيور الأربعة الروحانيون هم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم السلام. لقد تمت تربية اثنين منهم على يد إبراهيم مباشرة، وتربية اثنين بطريق غير مباشر، والمراد من وضعهم على الجبل أن يربيهم في مستوى رفيع. وفي هذا أيضا إشارة إلى أنهم ذوو درجات عالية، ويبلغون الذُّرى في الروحانية. والمراد من وضع كل واحد منهم على جبل منفصل.. أن هذا الإحياء لأمته سوف يتم على فترات أربعة منفصلة، وبذلك كشف الله له صورة للإحياء القومي الذي كان سيتم قريبا من بعده. كما أشير فيه أيضا إلى أربعة أدوار من الرقي تأتي على قوم إبراهيم على المدى البعيد.
باختصار قال إبراهيم: ربِّ أرني كيف تحيي الموتى؟ فقال الله: ألم تؤمن بقدرتي؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي.. أي هذا الإيمان باللسان، وأعرف أنك تحيي الموتى، ولكن قلبي يريد أن تُظهر قدرتك هذه في حق أولادي أيضا، وأريد أن تتحقق آيتك هذه في نفسي أيضا. فقال الله: إن أمتك سوف تموت أربع مرات، وسوف نحييها أربع مرات. وبالفعل تم هذا، فأولا في زمن موسى عليه السلام رُفع نداء إبراهيم على لسان موسى. فتم إحياء هذا الميت لأول مرة. ثم رُفع هذا النداء في زمن عيسى عليه السلام، وأُحيِيَ هذا الميت. ثم في زمن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم رُفع هذا النداء الإبراهيمي وقام قومه من الموت إلى الحياة. وفي المرة الرابعة في زمن الإمام المهدي رفع هذا النداء وأعيدت الحياة إلى هذا الميت. نادى إبراهيم ذريته أربع مرات، واجتمعوا حوله أربع مرات. الطير الأول الذي ناداه إبراهيم ونال بذلك اطمئنان القلب هو قوم موسى، والطير الثاني هو أمة عيسى، والطير الثالث هو جماعة محمد ذات المظهر الجلالي المحمدي، والطير الرابع هو الجماعة الإسلامية الأحمدية ذات المظهر الجمالي الأحمدي. وهكذا أراح الله قلب إبراهيم. فقال: نعم، إن ربي يحيي الموتى.
وقوله (بلى، ولكن ليطمئن قلبي) إنما يعني أن لساني وعقلي وفكري وحواسي ومشاهدتي تقر بأنك تحيي الموتى، فكل يوم أرى أنك تحييهم، ولكن إذا لم يهتدِ أولادي فلن يطمئن قلبي، ولاطمئنان قلبي أسألك آية تتحقق في أولادي. فقال الله له: سوف نحيي أولادك أربع مرات، ونتفضل عليهم بأفضال خاصة أربع مرات. ولقد تحقق هذا الوعد في هذه الأدوار الأربعة، وأنزل الله أفضالا خاصة على أولاد إبراهيم، وأحياهم حياة روحانية.
فهذا نبأ للزمن البعيد والقريب كليهما بإحياء قوم إبراهيم، وقد تحقق النبأ في وقته بكل روعة، وتبين للناس أن الله عزيز حكيم.
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.