﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾
اصطلاح (الذكر) له أكثر من معنى، منها: التلفظ بالشيء. ومنها إحضارُ الشيء في الذهن بحيث لا يغيب عنه. ومنها الصيتُ. ومنها الشرفُ كما في قوله تعالى (وإنه لَذِكرٌ لك ولقومك)، أي وإنه لشرف ورفعة لك ولقومك. ومنها الكتابُ فيه تفصيل الدين ووضعُ الملل. (راجع الأقرب)
وهاك بعض الآيات التي لا يفيد فيها هذا الاصطلاح معنى القرآن ولا غيره من الكتب:
{ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ) (ص)
{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) } (الزخرف 5)
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } (الأنبياء 10)
وهناك آيات يفيد فيها معنى القرآن فقط، كما في آيات كثيرة منها (إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون).. لأن السياق يؤكد ذلك. قال الله تعالى(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ).. فليس خافيا أن المخاطب هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الذكر هو القرآن لا غير.
أما قوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } (الأنبياء 105)، فليس المراد من الذكر هنا القرآن ولا التوراة، بل المراد من بعد ذكر الشروط، أي كتبنا في الزبور من بعد أن ذكرنا الشروط أن الأرض المقدسة سيرثها عبادي الصالحون..
وفيما يلي تفسير الآية في التفسير الكبير، مع أنه يحبذ قراءة تفسير الآيات السابقة واللاحقة لها، وكلها على الموقع:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
شرح الكلمات:
بلاغًا: البلاغ: الانتهاءُ إلى أقصى المقصد والمنتهى؛ التبليغُ؛ الكفايةُ (المفردات).
التفسير: يبين الله تعالى هنا أننا كنّا كتبنا في الزبور بعد ذكر الشروط أن الأرض المقدسة سيرثها عبادي الصالحون، وإن في هذا لرسالة لقوم عابدين. ولقد بعثناك رحمة للدنيا كلها.
أي ينبغي أن لا ينخدع أحد، لدى احتلال بني إسرائيل لهذه البلاد، حول ما تنبأنا به في العهد القديم بأن الأرض المقدسة إنما يعيش فيها عباد الله الصالحون؛ ذلك لأن تلك النبوءة كانت تنطوي على نبأ ضمنيّ أيضًا وهو أن عباد الله الصالحين لا بد أن يصبحوا غالبين على تلك الأرض ثانية وإن خرجت من أيديهم لفترة، حيث قال الله تعالى (إن في هذا لبلاغًا لقومٍ عابدين).. أي يا محمد بلِّغْ هذه الرسالة المسلمين ونبِّههم أنه سيأتي زمن يحتل فيه بنو إسرائيل هذه الأرض مرة أخرى. لقد ذكر الله تعالى هنا كلمة (عابدين) إشارةً إلى نبوءة داود عليه السلام.. حيث قال لرسوله صلى الله عليه وسلم نبّأْ عبادي وحذّرهم بأنهم إذا ما تهاونوا في أن يكونوا عبادًا لي فإن الله تعالى سيأتي باليهود إلى هذه البلاد. وإذا حصل ذلك فعلى المسلمين أن يصيروا قومًا عابدين ثانية، فيصبحون غالبين تارة أخرى. وليتذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة لكل العصور، ولا ينتهي عصره عند استيلاء بني إسرائيل على فلسطين، بل إن عصره صلى الله عليه وسلم ممتد إلى ما بعده أيضًا؛ فلا داعي للقنوط، لأن رحمة الله ستفور ثانية، فيصبحون غالبين على فلسطين مرة أخرى.
إن نبوءة الزبور التي تشير إليها هذه الآية هي كالآتي:
“لا تَغَرْ من الأشرار، ولا تحسُدْ عُمّالَ الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعًا يُقطَعون، ومثل العُشب الأخضر يذبُلون. اتَّكِلْ على الرب وافعَلِ الخيرَ. اسْكُنِ الأرض، وارْعَ الأمانةَ، وتَلذَّذْ بالرب، فيعطيَك سُؤْلَ قلبِك. سَلِّمْ للربّ طريقَك، واتّكِّلْ عليه وهو يُجرِي، ويُخرِج مثل النُّور بِرَّك، وحقَّك مثل الظهيرة. انتظِرِ الربَّ واصبِرْ لـه، ولا تَغَرْ مِن الذي ينجَح في طريقه مِن الرجل المُجري مكايدَ. كُفَّ عن الغضب واتْرُكِ السَّخَطَ، ولا تَغَرْ لفعل الشرّ، لأن عاملي الشرِّ يُقطَعون، والذين ينتظرون الربَّ هم يرِثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشريرُ. تطّلعُ في مكانه فلا يكون. أمّا الوُدعاء فيرثون الأرضَ ويتلذذون في كثرة السلامة.” (المزامير 37: 1-11)
ثم ورد فيما بعد: “الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد” (المرجع السابق: فقرة 29).
وليكن معلومًا أن هذا الوعد الذي قُطع مع بني إسرائيل حول الأرض المقدسة لم يكن وعدًا بدون شروط، بل كان منوطًا بشرط البر والتقوى والصلاح، فقيل لهم صراحة بأنهم لو تمادَوا في الشر سادرين في سيئاتهم فسيُنـزع منهم هذا المُلك. فقد حذّرهم موسى عليه السلام من التمرد والعصيان فقال: “وكما فرَح الربُّ لكم ليُحسن إليكم ويكثّركم، كذلك يفرح الرب لكم ليُفنيكم ويُهلِككم، فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخلٌ إليها لتمتلكها. ويبدّدك الربُّ في جميع الشعوب مِن أقصاء الأرض إلى أقصائها، وتعبُد هناك آلهةً أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك مِن خشبٍ وحجرٍ.” (التثنية 28: 63-64)
ولكن الله تعالى أخبر موسى عليه السلام أيضًا أن بني إسرائيل لو غيّروا ما بأنفسهم فسيُرحَمون. فقد ورد: “يرُدّ الربُّ إلهُك سبْيَك، ويرحمك ويعود فيجمَعك من جميع الشعوب الذين بدّدك إليهم الربُّ إلهُك” (التثنية 30: 3).
وهذا يعني أن بني إسرائيل قد أُخبروا على لسان موسى عليه السلام أن تلك الأرض ستُنـزع من أيديهم إذا تجاوز شرهم الحدود، ولكن الله تعالى سيرحمهم بعد فترة من الزمان فيُعطيهم هذه الأرض مرة أخرى. ثم بعد ذلك نبّأ الله بدمار آخر لليهود، حيث قيل لهم إنهم سيعودون إلى عصيانهم، فيحل بهم العذاب من عند الله تعالى ثانية، فيُطردون من البلد. وهذا النبأ أيضًا قد أدلى به موسى عليه السلام إذ قال:
أغاروه بالأجانب، وأغاظوه بالأرجاس.. فرأى الربُّ ورَذَلَ من الغيظ بنيه وبناتِه (وهنا أيضًا ترى أن اليهود كلهم ذكورً وإناثًا قد سُمّوا أبناءَ الله وبناتِه) وقال: أحجُب وجهي عنهم، وأنظُر ماذا تكون آخرتهم. إنهم جيلٌ متقلبٌ. أولادٌ لا أمانةَ فيهم. أجمَعُ عليهم شرورًا، وأُنْفِذُ سهامي فيهم، إذْ هُمْ خاوُون مِن جوعٍ، ومنهوكون مِن حُمَّى وداءٍ سامٍّ. أُرسل فيهم أنيابَ الوحوش مع حُمَةِ زواحفِ الأرضِ. مِن خارجٍ السَّيفُ يُثْكِلُ، ومِن داخلِ الخُدور الرَّعْبةُ. الفتى مع الفتاة، والرضيعُ مع الأشْيَبِ. (التثنية 32: 16- 25)
إذًا فإن الله تعالى قد أخبر بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام بدمارين يحلان بهم، مبينًا لهم أنهم لن يحكموا هذه البلاد حكمًا أبديًّا، بل سيحكمونها أولاً ثم يُنفَون منها، ثم تقع في قبضتهم ثانية، ثم يُنفون منها تارة أخرى.
أمَا وبأية روعة تحقق وحي الله هذا، فيتضح لنا ذلك بقراءة سورة بني إسرائيل (الإسراء) في القرآن الكريم حيث قال الله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسِدُنّ في الأرض مرتين ولتَعْلُنّ عُلُوًّا كبيرًا * فإذا جاء وعدُ أولاهما بعثْنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً * ثم رددْنا لكم الكرّةَ عليهم وأمددْناكم بأموالٍ وبنينَ وجعلْناكم أكثر نفيرًا)(الإسراء: 5-7).. أي أننا أنذرنا بني إسرائيل في التوراة صراحة أنكم ستعيثون في هذه البلاد فسادًا مرتين وتتمردون تمردًا كبيرًا. فلما حان تحقُّق وعدُ أول هذين الفسادَين سلّطنا عليكم عبادًا لنا شديدي البأس ذوي قوة عسكرية كبيرة، فاقتحموا جميع مدنكم وبيوتكم بفلسطين، ودمروا مملكتكم. وكان هذا وعدًا لا بد أن يتحقق. ثم رددنا لكم قوة الهجوم على العدو ورددنا لكم مُلككم، وساعدناكم بالأموال والأولاد، وزدناكم جمعًا وقوة. ولكنا سننـزع منكم هذه البلاد ثانية.
أما الوعد الثاني فيقول الله تعالى عنه ( فإذا جاء وعدُ الآخرةِ ليسُوءوا وجوهكم وليدخُلوا المسجدَ كما دخلوه أوّلَ مرة وليتبِّروا ما علَوا تتبيرًا * عسى ربُّكم أن يرحمَكم وإنْ عُدْتم عُدْنا وجعَلْنا جهنم للكافرين حصيرًا)(الإسراء: 8-9).. أي حينما جاء موعد تحقق وعد المرة الآخرة حقّقْنا هذه النبوءة أيضًا، فأعطينا هذه البلاد مؤقتًا لقوم ليسوّدوا وجوهكم ويذلّوا أعزّتكم، ويَدخُلوا المسجدَ كما دخلوه المرة الأولى وينتهكوا حرمته، ويدمّروا كل شيء وكل منطقة تدميرًا.
ولكن ليس بمستبعد أن يرحمكم ربكم، أي أننا سنقرر عندها بإرجاع هذه البلاد، ولكن الله تعالى لم يقل هنا أنه سيرجعها إلى اليهود، بل قال (عسى ربكم أن يرحمكم).. أي يزيل عنهم وصمة عار لحقت بهم في العالم، أما إذا عادوا إلى شرورهم الأولى فلا بد أن نعود نحن أيضًا إلى سنتنا، فنعذبهم وننـزع هذه البلاد منهم، وقد أعددنا جهنم سجنًا للكافرين.. أي سنجعل جهنم سجنًا لكم، أي لن تستطيعوا العودة إلى هذه البلاد بعد ذلك.
لقد تبين من هذه الآيات أن الله تعالى كان قد وعد بأن بلاد فلسطين سيملكها عباد الله الصالحون. وبما أن هذا الوعد قُطع لليهود أولاً فنالوا هذا المُلك، ولكن الله تعالى قد وضع بعض الشروط عند منحه هذه البلاد لليهود، وقال إنها ستبقى في قبضتكم لفترة من الزمان، ثم تنـزع منكم. وبالفعل جاءت الجيوش البابلية، فدمرت المعابد، وأبادت المدن، واستولت على البلاد كلها، واستمر حكم البابليين عليها قرابة قرن ونصف قرن من الزمان (الملوك الثاني 24: 10-17، وأخبار الأيام الثاني 36: 20-21، والموسوعة اليهودية مجلد 9: Nebuchadnezzar). ثم تغيرت الحكومة، فاستولى اليهود على البلاد ثانية.
ثم بعد المسيح عليه السلام هاجم الرومان البلاد ودمروها تدميرًا. كما خربّوا المسجد، وذبحوا فيه الخنـزير. واستمر استيلاؤهم على هذه البلاد طويلا، وأخيرًا تنصَّرَ الملك الرومي نفسه. ولذلك لم يقل الله تعالى هنا إننا نُرجع هذه البلاد لليهود بعد ذلك، بل قال (عسى ربُّكم أن يرحمكم).. أي سنـزيل عنهم وصمة عار لصقت بهم. فلما أصبح الملك الرومي مسيحيًّا صار يؤمن بموسى وداود وغيرهما من أنبياء اليهود. كان ذلك الملك مؤمنًا بعيسى في الحقيقة، ولكن بما أن عيسى عليه السلام ينتمي إلى الأمة الموسوية فبدأت الحكومة الرومانية تحترم أنبياء اليهود الآخرين أيضًا. كما احترمت التوراة، بل اعتبرتها كتابًا مقدسًا لها. وكأن الله تعالى شمل اليهـود بالرحمة.
ولكن الله تعالى يقول بعد ذلك (وإنْ عُدْتم عُدْنا).. أي أنكم لو فسدتم وعملتم الشر بعد ذلك، فسننـزع هذا المُلك من أيديكم، أي عندها سيأتي المسلمون وتقع هذه البلاد في قبضتهم، ويصيرون مصداقًا لقوله تعالى (عبادي الصالحون)، عندها ستُخلق لليهود الجحيم التي يصلَونها دائمًا.
لقد تبين من هذا التفصيل أن الله تعالى قد ذكر هنا ما يلي:
الأول: أن هذه البلاد ستُنـزع من اليهود وتعطى لأمة أخرى.
والثاني: أنها بعد فترة ستعود إلى قبضة اليهود ثانية.
والثالث: أنها ستُنـزع منهم مرة أخرى.
الرابع: وأنها ستعاد تارة أخرى، ولكن لا إلى اليهود، بل إلى المسيحيين الذين هم فئة أخرى من الأمة الموسوية نفسها.
الخامس: وأنهم لو أثاروا الشر بعد ذلك {وهنا انضم المسيحيون أيضًا إلى اليهود لأنهم طائفة من طوائف اليهود أصلاً } فإن هذه الأرض ستُنـزع منهم وستُعطى لأمة أخرى.. أي للمسلمين. ولكن الله تعالى لم يقل هنا إن هؤلاء سيدخلون المسجد لينتهكوا حرمته؛ ذلك لأن المسلمين يقدسون موسى وجميع الأنبياء { عليهم السلام } الذين بُعثوا تابعين لـه، كما يقدسون أماكنهم أيضًا، فما كان لهم أن يدخلوا مساجدهم ليرتكبوا فيها تلك الأعمال البشعة التي عملها البابليون والرومان.
وإنه لمن المهازل الغريبة التي تدل على نكران الجميل أن البابليين دمروا بلاد اليهود وانتهكوا حرمة مسجدهم، ولكن الكتّاب الأوروبيين عندما يؤلفون كتبهم فلا أحد منهم يسبّ فيها البابليين، ولا يستنكر أعمالهم البشعة، ولا يتهمهم بأي تهمة. ثم إن الرومان أيضًا عندما استولوا على هذه البلاد ذبحوا في مسجدها الخنـزير؛ وقد ألف المسيحيون الكتب حول التاريخ مثلما قام غِبن (Gibbon) بتأليف كتابه (The Decline And Fall Of The Roman Empire) – ولو قرأت أي كتاب لهم لوجدتهم يقولون لم يوجد في العالم نظير للإمبراطورية الرومانية (الموسوعة البريطانية مجلد 19: الإمبراطورية الرومانية)، مع أنها قد نجّست مسجدهم. أما الأمة التي لم تنجّس مسجدهم فيكيلون لها السباب والشتائم.
لقد فُتحت فلسطين في عهد عمر رضي الله عنه، ولما قدم أورشليم خرج القساوسة لاستقباله وسلموا لـه مفاتيح المدينة، وقالوا لـه: أنت ملِكُنا الآن، فتعال وصلّ ركعتين في مسجدنا حتى تطمئن أنك قد صليتَ في مكاننا المقدس الذي هو مقدس عندكم أيضًا. فقال لهم عمر رضي الله عنه إني لن أصلي في مسجدكم لأني خليفة المسلمين، فأخاف أن ينتزعوه منكم غدًا محتجين بأنه من الأماكن المقدسة عندهم. لذا سأصلي في الخارج حتى لا يُنـزع منكم مسجدكم.
فهناك قوم قد قدّموا قربان الخنـزير في مسجد هؤلاء، ومع ذلك لا تملّ أوروبا من كيل المدح والثناء لهم، وثمة شخص رفض أن يصلي ركعتي نفل في مسجدهم مخافة أن ينتزعه منهم المسلمون، ومع ذلك نجدهم يسبّونه ليلَ نهارَ. فما أشدّهم نكرانًا للجميل وما أبعَدَهم عن الحياء!
وبعد أن وقعت بلاد فلسطين في أيدي المسلمين كان من الممكن أن يقال إنها لم تبق في أيدي اليهود ولا في أيدي المسيحيين، فما هذا اللغز؟
ولكن التدبر في الأمر يزيل هذا الإشكال. ذلك لأنه حينما يحصل الخصام على شيء، ويقوم مدعون كثيرون يدّعون بالوراثة، فيقول الوارث الحقيقي أنا الوارث، فيصدُر الحكم في حقه. وهذا هو ما حصل هنا. كان الله تعالى يريد أن يعطي هذا المُلك أحدًا، وعُرضت القضية عليه ليصدر حكمه فيما إذا كان المسلمون هم الوارثون لموسى وداود أم اليهود والنصارى، فحكم عز وجلّ بأن المسلمين هم الوارثون الآن لموسى وعيسى؛ فأُعطوا هذا الإرث بحسب هذا الحكم الرباني.
ثم بعد ذلك يقول الله تعالى في سورة بني إسرائيل (فإذا جاء وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا)(الآية: 105).. أي أنه سيأتي بعد ذلك وقت سيُؤتى فيه باليهود من كل أنحاء العالم ويُسكَنون في فلسطين. وقد حان ذلك الآن حيث استولى اليهود على هذه الأرض.
في الفترة الأخيرة كلما ذهبتُ إلى كراتشي أو لاهور سألني المسلمون كيف وقعت هذه الأرض في أيدي اليهود مع أن الله تعالى كان قد وعد أنها ستبقى في أيدي المسلمين؟ فقلت لهم: أين هذا الوعد؟ بل على العكس يقول القرآن إن اليهود سيُسكَنون فيها ثانية. فقالوا في حيرة: لم نسمع ذلك أبدًا! قلت: ليس بينكم أحد قادر على أن يعلّمكم القرآن، فكيف تسمعون ذلك؟ اقرءوا تفسيري تجدوه فيه.
فالوعد الإلهي بأن اليهود سيعودون إلى أرض كنعان مرة أخرى لموجود في القرآن الكريم في قوله تعالى لليهود (فإذا جاء وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا).. أي حين يأتي موعد الزمن الأخير سنجمعكم ونأتي بكم هنا. علمًا أن المراد من (وعد الآخرةِ) هنا وعدُ العذاب الثاني للمسلمين، حيث بين الله تعالى أنه عندما يحل ذلك العذاب بالمسلمين وتخرج الأرض المقدسة من أيديهم للمرة الثانية، عندئذ سيأتي الله باليهود إلى هذا البلد تارة أخرى.
إذًا فما دام حكم البابليين لفلسطين قرابة مائة سنة، وكذلك حكمُ الرومان لها لحوالي ثلاثة قرون،لم يُعَدّ دليلاً على نسخ رسالة موسى وداود عليهما السلام، فكيف يمكن أن يُعَدّ الحُكم اليهودي المؤقت لهذه الأرض، الذي لم تمر عليه إلا بضع سنين، علامةً على نسخ الإسلام؟ كلا، بل إن هذا دليل على صدق الإسلام. ذلك لأن الإسلام نفسه ما دام قد تنبأ بأن المسلمين سيُطردون من تلك الأرض مرة، ليؤتى إليها باليهود ثانية، فلا يمكن أن يُعد ذلك علامة على نسخ الإسلام، بل هو آية على صدقه حيث تحقق ما تنبأ به.
أما إذا قيل: كيف يصح إذًا قول الله تعالى (إن الأرض يرثها عبادي الصالحون) فجوابه أن الاحتلال المؤقت للأرض المقدسة قد حصل مرتين في الماضي، وقد حصل الآن أيضًا. وعندما نقول “الاحتلال المؤقت” فهو يعني حتمًا أن المسلمين سيدخلون في فلسطين فاتحين ثانية، ويصبحون ملوكًا لها. وهذا يستلزم أن يُطرد منها اليهود، وأن يوفق الله المسلمين أن يقضوا على هذا النظام الذي يقام بمساعدة الأمم المتحدة وأمريكا قضاء نهائيًّا، وأن يأتوا بإخوانهم ويُسكنوهم في هذه البلاد.
واعلموا أن هذه النبوءة مذكورة في الحديث الشريف أيضًا حيث ورد أن الجيش الإسلامي سيدخل في فلسطين، فيفر اليهود منه ويختبئون وراء الأحجار، وكلما مر جندي مسلم بالقرب من حجر قال له الحجر يا مسلم، يا جندي الله، هذا كافر يهودي ورائي، فاقتُلْه. (البخاري، كتاب الجهاد والسير)
عندما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر لم يكن لليهود في فلسطين وجود ولا أثر، فثبت من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نبّأ هنا أنه سيأتي زمان يستولي فيه اليهود على هذه البلاد مرة أخرى، ولكن الله تعالى سيجعل المسلمين غالبين عليهم مرة ثانية، فيدخل جيش المسلمين في هذه البلاد، فيتتبّعون اليهود من وراء الأحجار ويقتلونهم. لقد استعملت تعبير “الاحتلال المؤقت” لقوله تعالى (أن الأرض يرثها عبادي الصالحون).. أي أن فلسطين ستبقى على المدى البعيد في يد قوم هم مصداق لقوله تعالى (عبادي الصالحون). لذا فلا بد أن يدخل أتباع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين هم عباد الله الصالحون، هذه البلاد فاتحين، ولن تقدر القنابل الذرية أو الهيدروجينية الأمريكية ولا المعونة الروسية أن تحول دون ذلك. إن هذا قدر الله، ولا بد أن يقع مهما حاولت الدنيا ردَّه.
قد يعترض هنا أحد قائلاً إن الله تعالى يقول هنا ( فإذا جاءَ وعدُ الآخرةِ جئنا بكم لفيفًا) وأنت تقول إن المراد منه “فإذا جاء وعد الزمن الأخير جئنا بكم لفيفًا”، فما دام الله تعالى قد قال من قبل أيضًا في سورة بني إسرائيل (فإذا جاء وعدُ الآخرةِ لِيَسُوءُوا وجوهَكم) مشيرًا إلى هجوم البابليين؛ فلم لا نقول أن قوله تعالى (فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفًا).. إنما يشير إلى حملة الرومان تلك؟
والجواب أن هذا غير ممكن، ذلك لأن قوله تعالى (فإذا جاء وعدُ الآخرةِ لِيَسُوءُوا وجوهَكم) جاء في سياق العذاب حيث بين الله تعالى أنه عندما يحين ذلك الوعد سيُهلَكون ويُدمَّرون، أما قوله تعالى (فإذا جاء وعدُ الآخرة جئنا بكم لفيفًا) فجاء في سياق الإنعام حيث بين الله تعالى أنه حينما يأتي وقت هذا الوعد سيأتي بهم الله ويسكنهم في هذه البلاد ثانية. إذًا فكيف يمكن أن يُعتبر نبوءة العذاب إنعامًا؟ فثبت من ذلك جليًّا أن (وعدُ الآخرة) المذكور هنالك هو غير (وعد الآخرة) المذكور هنا. إن (وعد الآخرة) هنالك يعني آخر حلقة من النبوءة المتعلقة بالسلسلة الموسوية، أما (وعد الآخرة) هنا فيعني النبوءة المتعلقة بعصر محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالوعدان مختلفان رغم تشابه الكلمات. أحدهما وعد العذاب، والآخر وعد الإنعام، وشتّانَ بينهما.
وهنالك آية أخرى في سورة الأنبياء وهي {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنبياء 24)
وقد جاء في تفسيرها:
ثم يقول الله تعالى انظروا إلى هذا القرآن، فإنه سبب شرف للمؤمنين بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه دليل على شرف الذين خلوا من قبله. فلولا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه ذوو الشرف الرفيع لما كان هناك دليل على شرف الأنبياء السابقين وأتباعهم.
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.