أثر أهل الكتاب في تفاسير القرآن الكريم
ليس خافيا أن اليهود قد خدعوا المسلمين بتأليفهم قصصًا نسبوها إلى كتابهم المقدس، من غير أن يكتبوها فيه، مُدَّعين أنها تمثل تفسيرا لما جاء في القرآن من آيات مجملة، فتلقّف المفسرون المسلمون هذه الأكاذيب معتبرين إياها كنوزا مخفية عثروا عليها في الوقت المناسب.
هذه هي الطامة التي حذر الله I منها في قوله ( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )..
فجريمة هذا الفريق من أهل الكتاب أنهم كانوا يلوون ألسنتهم ويقرءون نصوصا من تأليفهم بطريقة توحي أنها من التوراة، فيظن المسلمون أنها من عند الله، فيستدلوا بها في تفسير الآيات. مع أن الله I حذرهم بقوله ( وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ ) وبتأكيده (وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).. فالآية ليست تحذيرا لليهود، بل هي تحذير للمسلمين. لأن جريمة تحريف الكتاب لا تقارن بجريمة تكذيب محمد r، وما كان الله I ليحذّرهم هنا من تحريف كتابهم الذي كان قد ضاع أصلا، بل إنه تعالى يحذر المسلمين من تصديقهم فيما ينسبونه لكتابهم المقدس من قصص، لأنهم (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ).
لكن كثيرا من المسلمين يرون أن اليهود في زمن الرسول r كانوا يحرّفون النصوص التوراتية ويزيدون صفحات ويشطبون فقرات وصفحات.. وأنهم يشطبون كل عبارة ورد فيها اسم الرسول r !!
وهذا التصور إلى السذاجة أقرب، فقد أسلم عدد من اليهود، ولم يقُل أحد منهم إنه شاهد مثل هذا التحريف بهذه الطريقة. ثم إن النبوءات المتعلقة بنبي قادم لا تكون واضحة كالشمس، بل بحاجة إلى تأويل، حتى يسقط في الاختبار من لا يستحق الإيمان.
ثم ما هو العهد القديم؟ إن كثيرا منه ليس إلا كتب تاريخ صارت عندهم مقدسة. فهنا الخطر والخطأ، أنهم يقدسون ما ليس حقّه التقديس. وما الفرق بين تحريف هذا النص وعدم تحريفه؟ إنه ليس مقدسا أصلا، فلماذا نبحث في تحريفه؟ ولماذا نهتم بإثبات تحريفه؟ ولماذا نريد أن نتّهم اليهود بتعمّد تحريفه؟ إنه لا يستحق مثل هذا الاهتمام منا البتة.
ما يستحق الاهتمام هو إدخالهم نصوصا في كتبنا. هذا هو الذي يضرنا ويضر بتفسيرنا وبتصورنا لكتاب ربنا القرآن العظيم.
إن الخطورة أن يسمع المفسر المسلم من اليهود قصّة ثم يضعها في تفسيره لتصبح جزءا من التعاليم الإسلامية ومن الفكر الإسلامي ومن العقائد الإسلامية. وقد نجحوا في ذلك أيّما نجاح، وواجبنا الآن إصلاح تلك الأخطاء التي وقع فيها أسلافنا بوثوقهم بهؤلاء الذين (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ)..
فلنأخذ هذا المثال في تفسير قوله I ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ )، مع أن الآية في سياقها واضحة في أن اليهود اتبعوا ما يتقوّل كبار الكفرة اليهود المعاصرون لسليمان على ملكه، ويتهمونه بشتى الاتهامات. والآن لننظر ماذا جاء في تفسير الطبري عن السدّي: "كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة. فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب، فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا اسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه! فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم فأراهم المكان. وقام ناحية. فقالوا له: فادن! قال: لا ولكني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني! فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار فذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاءهم محمد r خاصموه بها".
ولنأخذ مثالا آخر من تفسيرهم لقوله I ( وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)
فقد جاء في تفسير الطبري عن ابن عباس قال: إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا: يا رب، هؤلاء بنو آدم الذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، يعملون بالخطايا! قال: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال: فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، قال: فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق. قال: فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن، يقال لها "بيذخت" فلما أبصراها أرادا بها زنا، فقالت: لا إلا أن تشركا بالله، وتشربا الخمر، وتقتلا النفس، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلا أن تشربا الخمر. فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقع من الشر، أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك! كنت أعلم! قال: فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت، وجعلا ببابل". (الطبري)
والأمثلة لا تُحصى، خصوصا عند تفسير الآيات المتعلقة بالأنبياء السابقين أو بقصص من السابقين. بل إن هذه القصص دخلت في كتب الحديث عامة حتى التي يُظَنّ أنه لا تشمل أي حديث ضعيف، مثل صحيح البخاري، فهناك العديد من الحكايات الواهية التي لا بد أن يكون مصدرها يهودي شرير، وقد رُوي أكثرها عن أبي هريرة، الذي يتّهمه البعض بالكذب، وحاشاه، ولكنه كان يستمع كثيرا لأهل الكتاب كما يبدو، وبعد مدة صار يخلط بين ما سمعه منهم وبين ما سمعه من رسول الله r، فجاء هذا الخلط الذي يكفي فيه بعض الأمثلة:
المثال الأول: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَكَانَ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ ثَوْبِي يَا حَجَرُ حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بالْحَجَرِ)) (البخاري، كتاب الغسل)..
يبدو أن أحد اليهود حاول أن يُدخل هذه الرواية ليضحك قومه على المسلمين، وذلك لما سمع قوله I ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا ).
المثال الثاني: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا جَاءهُ صَكَّهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ قَالَ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ قَالَ أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا قَالَ ثُمَّ الْمَوْتُ قَالَ فَالْآنَ قَالَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ (البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء).
المثال الثالث: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلام لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ فَأَطَافَ بِهِنَّ وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ. (البخاري).
المثال الرابع: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فُقِدَتْ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُدْرَى مَا فَعَلَتْ وَإِنِّي لَا أُرَاهَا إِلَّا الْفَارَ إِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ تَشْرَبْ وَإِذَا وُضِعَ لَهَا أَلْبَانُ الشَّاءِ شَرِبَتْ. (البخاري).
قد يقول قائل: ما غاية اليهود من إدخال هذه القصص وحبكها؟
فأقول: الغايات كثيرة، أبسطها مجرد السخرية والضحك والاستهزاء، فبعد أن يخبروا المسلمين بذلك ويصدقهم المسلمون يضحكون فيما بينهم بملء فيهم. وثانيها: إقناع بسطائهم ببطلان الإسلام، إذ ما دام المفسرون المسلمون يؤمنون بهذه الخرافات، وما دام تفسير القرآن تدخل فيه هذه الأكاذيب، فهو دين باطل. ورغم سذاجة احتجاجهم، لكنه قد يقنع بعض الناس خصوصا إن رافقه دجل آخر. وثالثها: محاولة هدم الإسلام، بسبب الحسد الذي يأكل قلوبهم من انتشاره، فظنوا أن هذه القصص المكذوبة يمكن أن يكون لها دور في هدم الإسلام على المدى البعيد إن لم يصلح على المدى القريب. ورابعها: رغبتهم في أن يَظهروا معلِّمين ومصادر للمعلومات، بحيث يسألهم جيرانهم المسلمون بشغف عن ما غمُض عليهم. وغير ذلك من مبررات تجعلهم يرغبون في جريمتهم وتضليلهم وكذبهم.
المهم الآن أن ندرس القصص في كتب التفسير وكتب الحديث واضعين هذا كله نصب أعيننا.
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.