الحيلة الشرعية
كارثةٌ أن يتحدث بعض الفقهاء عن (الحيل الشرعية)، وأن يصنّفوا لها بابًا. فهل هنالك حيلة شرعية؟ هل يمكن الجمع بين الشرع والتحايل؟ أليس التحايل نقيضًا للشرع أبدًا؟
لقد استند القائلون بالحيل الشرعية على قصة واهية لتفسير آيات تتحدث عن أيوب u، وهي قوله I (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (سورة ص)
وملخص التفسير التقليدي الخاطئ أن الشيطان الشبحي أو المتمثل بغلام قد أضرّ بأيوب u، حيث أهلك ماله وولده، وأيوب صابر. ثم سبّب له الأمراض الرهيبة، بحيث لم يحتمل الناس رؤيته للجرَب الذي حلّ به؛ حتى أن امرأته ألحّت عليه أن يدعو الله تعالى ليشفيه، وقد اعتبر أيوب u هذا الطلبَ جريمةً تستحق الضرب مائة جلدة، فأقسم على ذلك. مع أن طلبها لا شيء فيه، بل إن الله I يأمرنا بأن ندعو ليستجيب لنا. وبعد زمن طويل أمره الله تعالى أن يضرب برجله الأرض لتُخرج نبعًا يستحم منه ويشرب فيشفى. وهكذا كان. أما امرأته فليس له إلا أن يأخذ مائة عود ويضعها في رزمة واحدة، ويضرب زوجته بها ضربة واحدة، وهكذا لا يحنث بيمينه.
وهذه القصة المليئة بالباطل والخطأ
مع أنه ليس في الآية أن امرأته قد طلبت منه ذلك، ولا أنّه أقْسم هذا اليمين الإجرامي، بل تمتدح الآياتُ زوجتَه. والخطأُ الآخر الذي وقع فيه المفسرون هو ظنهم أن الشيطان هو الشبحي، مع أنه يُطلق على الشخص المجرم المؤذي.
إن الآيات تتحدث عن أَيُّوبَ الذي نَادَى رَبَّهُ أن الملكَ الطاغية أو رئيس القبيلة الشرير قد أضر به أشدَّ الضرر. فأمره الله I أن يهاجر من هذه البلد بسرعة، وليحث الدابة التي يركبها على الجري بضربها برجله، حيث سيجد نبعًا يغتسل منه ويشرب بعد هذه الهجرة السريعة من هذه القرية الظالم أهلها. وإن الله I سيهب أيوب أهله الذين سيلحقون به، وأهلا آخرين مثلهم، وهذا بفضل الله ورحمته الذي يعوضه عما خسره في بلده.
وللتسريع في هذه الهجرة أمر الله تعالى أيوب أن يضرب الدابة بغصن كثير العود أو الذي فيه أعواد يابسة وخضراء (مختلطة)، لأن كلمة الضغث في أصلها تعني المختلط. وأمره الله تعالى أن لا يحنث، والمعنى أن لا يميل نحو الباطل، حيث إن البقاء بين المشركين الظالمين يؤثر عليه وعلى من معه.
لقد كان التفسير الخاطئ لهذه القصة عمدةَ القائلين بالحيل الشرعية. ولقد اختلفوا في الحيل أشدّ الاختلاف، حتى قال بعضهم إن هذا خاص بأيوب، وقال آخرون: بل هو عام. واعترض غيرهم وفرقوا بين حيلة وحيلة. وقال فريق رابع: هذا منسوخ.
وبلغ التحايل أشدّه عند بعض الفقهاء، مع أن الرسول r قد حذّر من التحايل في أحاديثه وفي سلوكه. ولا يكاد أحد يجهل موضوع التيس المستعار، وهو الذي يحلل المرأةَ لزوجها إن طلَّقها ثلاثا، حيث إنه لا يجوز له أن يتزوجها إلا إذا تزوَّجت رجلا آخر، ثم لسبب أو لآخر طلَّقها.
وأذكر قصةً أخرجها سعيد بن منصور أن رجلا قال لعطاء: "إني حلفت أن لا أكسو امرأتي درعًا حتى تقف بعرفة، فقال: احملها على حمار ثم اذهب فقِف بها بعرفة، فقال: إنما عنيتُ يوم عرفة. فقال عطاء: أيوبُ حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة أَنَوى أن يضربها بالضِّغْث؟ إنما أمره الله U أن يأخذ ضِغْثًا فيضربها بها. ثم قال: إنما القرآن عبّر .إنما القرآن عبّر " (روح المعاني، الآلوسي، تفسير آية 44 من سورة ص). بينما قال الله U (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (سورة البقرة: 225). ومعنى الآية: أن لا تجعلوا الله عائقًا يحول دون إتيانكم البر والتقوى والإصلاح وفعل الخيرات. أي لا تُقسموا بالله على ألا تفعلوا خيرا، أو لا تقسموا بالله على فعل الشرّ. وحسب التفسير التقليدي فإن أيوب u قد خالف الآية.
وحتى لو خالف المرءُ هذه الآية، فهنالك حلّ، وهو في قوله U (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة: 90). نعم، الحل هو الكفارة عن هذا اليمين، بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، أو صيام ثلاثة أيام لمن لا يملك ذلك. وليس التحايل في تطبيق ما أقسم المرء عليه من عمل سوء. لأن العبرة بالنية والقصد، وليس بالحرفية. وبهذا يسقط باب الحيل من أصله.
وباختصار: فإن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج. ولكن بعض الفقهاء أوقعوا الناس في حرج من خلال اجتهاداتهم الخاطئة، فاضطروا للبحث عن مخرج من خلال التحايل على الشرع، واخترعوا لنا باب الحيل الشرعية. وقد فرحوا بقصة أيوب التي فهموها خطأ باعتبارها دليلا على دعواهم.
فالحلّ أن نعود إلى تصحيح الخطأ في الاجتهادات التي تجعل على المسلمين حرجًا، وحينها ينتهي مبرر الحيل كلها، وننتهي من تبعات هذا الفكر على الأخلاق، لأن من يؤمِن بالحيل لا يؤمَن جانبه.
منقول
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.