مفهوم الشيطان في المنظور الإسلامي
جاء في التفسير الكبير لحضرة الخليفة الثاني في تفسير سورة الفرقان ما تعريبه:
الشيطان يعني في العربية الكائن الذي يبتعد عن الحق، أو يزداد شرًّا وسوءًا (لسان العرب: شطن). أما إبليس فهو من يصبح آيسًا (أقرب الموارد).
وعندي أن الشيطان أو إبليس اسم لكائن خلقه الله I إزاء الملائكة لاختبار البشر، فلا موت للشيطان ما لم يكمّل مهمته، كما لا موت للملائكة ما لم تتم مهمتهم. (التفسير الكبير تفسير سورة الحج).
ويقول أيضا إن الشيطان أو أظلاله من البشر يعلنون براءتهم ممن يتخذونه أداةً طيّعة لارتكاب الإثم، إذ يقولون له: لم نكرهك على ارتكابه، وإنما كنت بنفسك شريرًا لذلك رضيت بما أشرنا به عليك. لو كان فيك خير لما رَضِيت بقولنا. متى أكرهناك على ارتكاب المعصية؟
وهذا حق لا شك فيه. فإن الشيطان أو أظلاله من البشر لا يملكون في الواقع أي خِيار على الإنسان، وإنما هم وسيلة لكشف عيوبه فقط، مثلما تكون الملائكة سببًا لظهور كفاءاته الحسنة. والحق أن أهواء النفس البشرية هي التي تضله وتنحرف به، ولا دخل للشيطان في ضلاله، إلا أنه يمتحن الإنسان مشيرًا عليه باختيار السيئة. شأنه شأن المعلم الذي يضع أمام الطالب أسئلة صعبة وقت الامتحان. فعند فشل الطالب في الامتحان لا يقول أحد بأن المعلم هو الذي تسبب في فشل الطالب وإنما يقولون: إنه فشل بسبب ضعفه العلمي، أما المعلم فقد كشف عليه الواقع. كذلك حال الملائكة والشيطان. فالملائكة يُظهرون للإنسان مستواه في الخيرات، بينما يكشف عليه الشيطان مستواه في السيئات، ولا يعني ذلك أن الملائكة تجعل الإنسان بارًّا، أو أن الشيطان يجعله فاسدًا.
والمراد من قوله فَلا تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم أنكم رأيتم وعود الله تتحقق دائمًا ومع ذلك لم تكترثوا لها ولم ترضوا بها، وتقبلتم ما وعدتكم من وعود معسولة رغم انكشاف زيفها عليكم، فما ذنبي في ذلك.
وقوله إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ، أوليس غريبًا أن نجد الشيطان يدّعي الإيمان بتوحيد الله تعالى، إذ يذكّرهم قائلاً: أنتم بأنفسكم اتخذتموني شريكًا مع الله بينما كنت أنكر ذلك.
والواقع أنه على حق، لأن الشيطان الذي يقوم باختبار الناس وكشف عيوبهم إنما يقوم بواجبه الذي فرضه الله عليه. ولا شكّ أن جبروت الله وعظمته تكون جليّة أمام عينيه، فكيف يمكن إذًا أن يقع في الشرك؟ وإنما يتولد الشرك في الإنسان عندما يقبل الوساوس الشيطانية ويحوِّلها إلى معصية. (التفسير الكبير تفسير سورة إبراهيم)
والواقع أن معارضة الأنبياء هي من أهم الوسائل الخفية التي يوسع الله I بها نطاق رسالته. فعندما تهبّ عاصفة المعارضة تقع بين الناس هزة، فيقول أصحاب الفطرة الطاهرة في أنفسهم: ماذا يقول صاحب هذه الدعوة، ولماذا يلقى المعارضة؟ وعندما يتحرون الأمر يشرح الله I صدروهم لقبول الحق، فيؤمنون به. فثبت أن المعارضة وسيلة قوية لإيصال صوت الأنبياء إلى آذان القوم. والمتنبئون الكذابون يكونون محرومين تمامًا من هذه الوسيلة. لا شك أنهم أيضًا يدّعون دعاوي غريبة، ولكن الناس لا يكترثون لهم، بل يعتبرون دعواهم ضربًا من الجنون فحسب. إن هؤلاء المفترين يتمنون أحيانًا أن يعارضهم الناس حتى يتحدث عنهم كل صغير وكبير ويذيع صيتهم بين القوم، ولكن لا أحد يلتفت إليهم، فيعيشون في زاوية الخمول ويموتون في زاوية الخمول. ولكن الله I إذا بعث أحدًا من عنده انبرى لمعارضته كل القوم صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وقويهم وضعيفهم، وكل واحد من القوم يطلق إليه سهامه ظنًا منه أنه يعمل عملاً يثاب عليه، ولكن هذه المعارضة نفسها تهز ذوي الفطرة السعيدة في الأخير هزًّا، وتوصلهم إلى باب الله I. ألم تر أن المعارضة الشديدة من قِبل أهل مكة هي التي نشرت الإسلام في الحبشة. وهي التي أوصلت رسالة الإسلام إلى المدينة المنورة. وهي التي دفعت أولاد كبار أعداء الإسلام من مكة وإخوانهم وأقاربهم إلى أحضان الإسلام، فأخذوا يفدون الرسول r بأرواحهم. وبرغم أن المكيين قد اتخذوهم عرضة لصنوف التعذيب، حتى جرّوهم على أرض ذات أحجار، وألقوهم في الرمال المحرقة في الشمس، وكبلّوا أيدي المسلمين وأرجلهم بالأصفاد، وأخرجوهم من ديارهم وأوطانهم، وقتلوا المسلمات طعنًا في فروجهن، وقتلوا بعض المسلمين بربط إحدى رجليه ببعير ورجله الأخرى ببعير آخر، ثم ساقوهما في جهتين متعاكستين، ومع ذلك ظل هؤلاء القوم هائمين حول الرسول r كالفراش ويضحّون بأرواحهم من أجله r.
فرغم أن الشيطان عدو للحق منذ الأزل، ويسعى جاهدًا للقضاء عليه، ولكنه يصبح وسيلة لانتشار الحق في واقع الأمر، ويتسبب في وصول التائهين في الضلال إلى العتبة الإلهية. ولذلك عزا الله I هذا التدبير إلى نفسه فقال ( جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ) (الأنعام:113)، موضحًا أنه قد خلَق لَمّة الشيطان عن قصد ولحكمة بالغة. ولما كان من الوارد أن يعترض أحد ويقول: لماذا يبعث الله عباده المحبوبين لهداية الناس، ثم يسلط عليهم أعداءهم كالكلاب المسعورة؟ فأجاب الله عن ذلك وقال ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).. أي أن ربك كافٍ لهداية الناس ولنصرة أنبيائه نصرًا معجزًا. بمعنى أنه مما لا شك فيه أن المعارضة مدعاة للاعتراض في الظاهر، ولكنها هي التي تصبح في نهاية المطاف دليلاً على أن الله I هادٍ ونصير. فإذا اشتدت المعارضة ازدهرت الجماعة الإلهية أيضًا، واذا ازدادت المعارضة ازداد معها التأييد الإلهي والنصرة الربانية أيضًا. ولذلك كلما كان بعض أتباع سيدنا المسيح الموعود u يشتكي إليه باشتداد المعارضة في منطقته كان يقول له: هذا دليل على رقي جماعتكم، لأنه حيثما تكون المعارضة تزدهر جماعتنا أيضًا، لأن كثيرًا من الناس الذين لا يعرفون جماعتنا يطلعون عليها من خلال ما يقول الخصوم، فيرغبون في قراءة كتبنا شيئًا فشيئًا، فيقبلون الحق.
حضر شخص ذات مرة إلى سيدنا المسيح الموعود u وبايع على يده. فسأله حضرته: من بلغك الدعوة؟ فقال بدون توقف: الشيخ ثناء الأمرتسري. فقال u في حيرة: كيف؟ قال: كنت أقرأ الجريدة الأردية للشيخ الأمرتسري، وكنت ألاحظ دائمًا أنه شديد الطعن في جماعتكم. فقلت في نفسي يومًا: لم لا أرى بنفسي ما ورد في كتب هذه الجماعة؟ فبدأتُ مطالعة كتبكم، فانشرح صدري ورغبت في بيعتكم.
إذًا، فالفائدة الأولى في المعارضة أنها تؤدي إلى ازدهار الجماعة الإلهية وتتسبب في هداية الكثير من الناس. والفائدة الثانية أن الله I يُظهر بسبب عداء الخصوم آيات معجزة لتأييد جماعته ونصرتها. عندما تبلغ المعارضة ذروتها تجذب أدعيةُ المؤمنين وابتهالاتهم نصرة الله من السماء، فيُهلك الله I بقهره أعداءهم ذوي المنعة والقوة. فمثلاً حين قام فرعون وجنوده بمطاردة بني إسرائيل ظن قبل غرقه بدقائق أنه قد نجح في قصده، حتى ظن بنو إسرائيل أيضًا أنهم هالكون، فصرخوا قائلين ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (الشعراء:62)، ولكن موسى u الذي كان يتوكل على ربه توكلاً كاملا أجابهم وقال ( كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) (الشعراء:63).. أي سيهديني إلى مخرج من هذه الورطة الهائلة. فما هي إلا دقائق حتى وصل موسى مع قومه إلى الشاطئ الآخر من البحر، بينما أخذ فرعون وجنوده يغرقون في أمواجه.
مجمل القول إن المعارضة وسيلة كبيرة لنشر الهدى، وتؤكد كون الله I هاديًا ونصيرا.
وأقتبس للفائدة فقرة أخرى من التفسير الكبير:
ولا مجال لثواب أو عقاب الشيطان المحرض على الشر. ذلك أنه مما لا شك فيه أن الذي يقتل شخصًا آخر يعاقَب بالإعدام، ولكن البرق الذي يحرق عشرات الناس لا يستحق أي عقاب. وبالمثل إن حمم البراكين التي تثور عند الزلزال وتدمر مناطق واسعة، ومطرَ البرَدِ الذي يُهلك الزروع، والرياحَ التي تحوّل المدن خرابًا، كلها أشياء مؤذية مدمرة، ولكنها لا تعاقَب في أي شرع. فلا شك أن الشيطان وإبليس مصيرهما جهنم، وأن الملائكة مصيرها الجنة، ولكن لن تجد الملائكة في الجنة أي متعة، كما لن يشعر الشيطان في جهنم بأي أذى. ذلك أن الشيطان كائن ناري، ومتى تتألم جذوة من النار إذا ما أُلقيت في الأتون؟! إن النار إنما هي مقام إبليس. فليس المراد من دخول الشيطان النارَ أنه سيعاقَب بذلك، بل المعنى أنه وصل إلى المكان الذي كان ينتمي إليه. إن الملائكة إذا دخلت الجنة فلن تدخلها كجزاء لها، وبالمثل لن يدخل الشيطان النار كعقاب لـه. نعم، إن أظلال الشيطان يعاقَبون بحسب جريمتهم لأنهم يقومون بأعمال لم يُخلقوا من أجلها. علمًا أن العقاب إنما هو على أعمال تكون خلافًا للقانون الطبيعي، ولما كان الإنسان قد خُلق بطبعه للأعمال الصالحة لقوله I ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ) (الذاريات: 57) فمَن ترَك منهم العبودية لله I ونسي عبادة الله استوجب العقاب. ولكن الحافز على الشر، أي الشيطان، لم يُخلق إلا لاختبار الناس، فلن يعاقَب إلا إذا قصّر في تحريضه إياهم على الشر.
نعم، يمكن أن يقال: فلماذا يُذكر الشيطان بالسوء إذًا؟ والجواب أن كون الشيء سيئًا أمر، وكونه مستوجبًا للعقاب فهو أمر مختلف تمامًا. فمثلاً، إننا لا نرمي الغائط والبراز بعيدًا عنا عقابًا لـه، بل لأن بقاءه داخل البيت ضار بصحتنا. وهكذا حال الشيطان الذي هو الحافز على الشر. إنه يمثّل المرض والإثم، فلا بد أن يوصف بالسوء، ومع ذلك لا يستوجب العقاب.
ثم يقول فى نفس المصدر :
وقد يتساءل هنا أحد قائلاً: فلماذا يلقي الله بالشيطان في الجحيم إذن؟ والجواب: لقد سجّل القرآن قول الشيطان لله I خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ (الأعراف:13). فالذي خُلق من النار لن يتعذب بدخوله فيها، فمثلاً لو ألقيتَ جمرةً ملتهبة في الموقد فلن يحدث لها شيء. ولذلك نجد الصوفية يميلون إلى الاعتقاد بأن أظلال الشيطان من البشر سوف يعذَّبون، ولكن الشيطان نفسه لن يعذَّب، لأنه إذ يختبر الناس فإنه يؤدي واجبَه الذي فرضه الله عليه. "
الله U خلق نظاما متوازناً في العالم، ومنه توازن الخير والشر. وكلا النوعين، الخير والشر يدفعان الإنسان نحو الخير، فملائكة الخير تدفع الإنسان نحو الخير فإن استجاب فبها ونعمت. وإن لم يستجب يقوم الشيطان بدفعه نحو الشر حتى يقع فيه ويذوق مراره ويلعق علقمه ويشرب حممه، ويأكل نتنه وجيفه، فيرجع راكضاً إلى ربه U فيسمع ويطيع.
وقد أشار خاتم الأنبياء r إلى هذا المعنى بقوله "خُلقت الملائكة من نور. وخُلق الجان من مارج من نار. وخُلق آدم مما وُصف لكم" (صحيح مسلم- باب أحاديث متفرقة).
فالنور يُضيء للإنسان طريقه فيصل إلى مرامه بسلام. والنار أيضا تضيء للإنسان طريقه ولكنها في نفس الوقت تمسّه بلهيبها فيتألم. وهكذا ملائكة الخير توصل الإنسان إلى جنة ربه بسلام، والشيطان يوصل الإنسان إلى جنة ربه أيضا ولكن بعد عذاب.
0 comments :
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.