الموقع العربي الرسمي للجماعة الإسلامية الأحمدية

الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

خطبة الجمعة بتاريخ ١٧/١٠/٢٠١٤

خطبة الجمعة بتاريخ 17/10/2014


التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام


يوم 17/10/2014


في مسجد بيت الفتوح بلندن



   


 أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. [بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ]، آمين.


كل فرد من أفراد الجماعة، رجالا ونساء، صغيرا وكبيرا يعرفون جيدا جملةَ: "سأوثر الدين على الدنيا"، وذلك لأن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلا وجّه أنظارنا إلى هذا الأمر بكثرة. ويستخدم المحاضرون في الجماعة وكذلك الخلفاء هذه الجملة كثيرا في محاضراتهم وخطاباتهم. والحق أن شروط البيعة أيضا تتلخص في إيثار الدين على الدنيا. وعهود المنظمات الفرعية في الجماعة الإسلامية الأحمدية أيضا تتلخص في الفكرة نفسها؛ أي سنؤثر الدين على الدنيا، وإضافة إلى ذلك نعيد الجملة نفسها في كلمات البيعة أيضا. باختصار، هذه الجملة تمثّل عهد كل أحمدي وعليها تعتمد بيعته، وعليها يعتمد ارتباطه بالخلافة وبنظام الجماعة، وإلا فيكون ادعاؤه البيعة والارتباط بالخلافة ونظام الجماعة باطلا محضا، ويكون إعلانه البيعة والحصول على رضا الله تعالى كلاما فارغًا بحتا. لذلك يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بأن الذي يقرّ عند البيعة بأنه سيؤثر الدين على الدنيا ولكن لا يفي بهذا العهد بعمله صدقا وحقا فالله تعالى لا يبالي به.


فعلى كلٍّ منا أن يضع في الحسبان دائما أنه يجب ألا يكون أيّ شيء عائقا له في سبيل الدين. وما أدراكم ما الدين؟ المراد من الدين أن يعيش المرء في ضوء أوامر الله تعالى ويتحرى رضاه ﷻ بكل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله. إنه لمن فضل الله تعالى أن عددا كبيرا من أفراد الجماعة يسعون جاهدين أن يزيلوا ما يعرقل سبيلهم إلى الدين. ولكن من الواضح أن سعي كل شخص في هذا المجال لا يكون على المستوى نفسه لأن الناس يتفاوتون في المواهب العلمية وغيرها. ولأن الله تعالى يعلم نياتنا وما في صدورنا فهو يعامل كل شخص بحسب قدراته ومَلَكاته. فالأمر الأساسي لإيفاء هذا العهد هو حسن النية ويجب ألا تقدَّم في هذا السبيل أعذار واهية. نرى في المجالات الدنيوية أيضا أن لكل شخص قدرات ومواهب مختلفة. فيكون سعي شخص محصورا في دائرة ضيقة لأن علمه ومواهبه في أمر معين تكون محدودة، أو يحدث أحيانا أن الأولويات الأخرى تعيق طريقه وتحُدّ مساعيه في مجال ضيق. وتكون مساعي غيره أوسع بكثير وتكون في اتجاه صحيح، فيكون نظره مركَّزا على عمل يريد إنجازه فينال مرامه بالتمام والكمال.


لقد بيّن سيدنا المصلح الموعود  ؓ هذا المضمون وسأذكر اليوم بعض الأمور مستفيدا من كلامه وسأذكر بعض الأحداث بوجه خاص. لقد ضرب  ؓ مَثل سعيٍ محدود ومَثل سعيٍ أكبر بحسب المطلوب، فقال بأن بعض الناس يهتمّون بلباسهم كثيرا جدا لدرجة مهما كان الشغل ضروريا ومستعجلا فهم يعيرون اهتماما كثيرا بلباسهم قبل الخروج ويرون من جميع الجوانب أن يكون بنطالهم ومعطفهم مكويين جيدا وألا تكون فيهما أية تجاعيد قطّ، فيفحصون لباسهم جيدا لبعض الوقت وإن كان وصولهم إلى مكان ما حاجة ملحة. وبناء على ذلك يصبح سعيهم للوصول إلى ذلك المكان محدودا. أقول: هذه الظاهرة لم تنته في ذلك الزمن بل تلاحَظ هذه الأمثلة في الزمن الراهن أيضا. وقد آلت الحالة في الرجال والنساء في مجتمعاتنا في آسيا إلى أنهم يعيرون اهتماما أكثر من اللازم بكثير للباسهم. وهناك آخرون يستخدمون موضات جديدة دون أدنى شك وبكل شغف ورغبةٍ، ولكن إذا كان أمامهم هدف معين يضحّون بالموضات والاهتمام باللباس وما إلى ذلك. وإذا اضطروا للركض مع ارتدائهم لباسا فاخرا وأنيقا فلن يقصروا في ذلك أيضا، ويجلسون في أيّ مكان بحسب مقتضى الأمر، وإذا اضطروا للمشي في التراب والغبار فعَلوا دون تردد ولا شعور بمعاناة. لماذا؟ لأن أمامهم هدفا ومطلبا ملحا ويودّون في كل الأحوال أن يحققوا هدفهم وينالوا مرامهم فلا يكون لباسهم الفاخر أو بزّتهم عرقلة في سبيل نيلهم هدفهم، ولا يهتمون بأيّ شيء في هذا السبيل.


لقد ضرب المصلح الموعود  ؓ مَثلا آخر لمزيد من التوضيح كيف يضحي الناس بأشياء مادية وعادية من أجل هدف أسمى؛ وقد اقتبس مثالا من تاريخ بريطانيا. لقد سجل تاريخ بريطانيا أن الملكة اليزابيث- ليس الملكة الحالية بل اليزابيث الأولى التي توِّجت ربما في عام 1558م وبقيت ملكة إلى 45 عاما، وكانت ملكة شهيرة جدا لدرجة أن دعائم عظمة بريطانيا وقوتها قد أُرسيت في ذلك الزمن- كان معروفا عنها أنها تحب أن يلبس الناس في حاشيتها ومن حولها لباسا فاخرا وجميلا وأن يهتموا بأناقتهم، ولم يكن يُسمح بالدخول إلى البلاط لمن لا يكون لباسه فاخرا وجيدا. فيقال بأن الشباب الأنيقين وذوي اللباس الجميل كانوا يتجمهرون حولها. ذات مرة كانت تمشي مع حاشيتها ووصلت إلى طريق فيه بعض الوحل- اليوم نرى شوارع مرصوفة في هذا البلد ولكن في تلك الأيام كانت كثير من الأزقة غير مرصوفة- وكان القائد الأعلى في القوات البحرية البريطانية ماشيا معها وكان من المقربين جدا عند الملكة وكان معتادا على ارتداء لباس جميل وفاخر دائما. وعندما وصلا إلى الوحل خلع قائد القوات البحرية معطفه الذي كان ثمينا جدا وكان خاصا بالارتداء عند حضوره إلى البلاط والمناسبات المهمة، وفرشَه فورا على الوحل أمام الملكة، علما أن الوحل كان في مكان صغير. استغربت الملكة من ذلك كثيرا وسألت القائدَ الذي كان اسمه "السير والتر ريلي" لماذا فعلتَ ذلك؟ فقال القائد لتوه: أنْ يتسخ معطف "ريلي" خير من أن يتسخ حذاء الملكة. أُعجبت الملكة بكلامه كثيرا وبالتالي زاد تكريمه في البلاط أكثر من ذي قبل بل بلغ منتهاه. غير أنه اتُّهم في زمن "جيمز الأول" بالخيانة وأُدين وحُكِم بالإعدام. على أية حال، لقد قام القائد المذكور في زمن هذا الملك أيضا بخدمات جليلة للبلاد بما فيها إنجاز المهمات الصعبة في جنوب أفريقيا ولكنه عوقب أخيرا كما قلتُ. فمن هذا المثال يُستمَدّ درس أن القائد المذكور مع كونه معتادا على ارتداء لباس فاخر وجميل ومحبا للأناقة فرش معطفه الجميل والفاخر على الوحل عندما كان الأمر يتعلق بالملكة وضحّى بأناقته من أجل الملكة. فإذا ضحى شخص مادي من أجل الملكة بما كان معتادا عليه من الموضة وبمعطفه الجميل والفاخر الذي كان مهما جدا بالنسبة له فيجب أن نفكّر كم يجب أن نسعى ونضحي لتقدم الدين ولنشره وتوطيد دعائمه ومن أجل الحصول على رضا الله تعالى الذي خلقنا.


أفلا يكون هذا الهدف أحب إلينا بقدر ما كان رضى الملكة أحب إلى "ريلي"؟ ومع إرضائِه لملوك الدنيا وبعد أدائه خدمات كثيرة كانت عاقبته أليمة. أما الذي يُرضي الله تعالى فإنه ينال إنعامات الله تعالى في هذه الدنيا وتكون عاقبته أيضا حسنة.


فينبغي أن نتذكر دوما أنه لا يجدي نفعًا كون الأهداف عاليةً وعظيمةً ما لم تصحبْها التضحية والفداء بحسب مقتضى تلك الأهداف. سننال رضى الله تعالى إن لم تكن الدنيا تغلب دينَنا وإنما كان الدين غالبًا عليها. لم يمنع الله تعالى من كسب الدنيا، وليس محرما ما لا يحرمه الله تعالى، فلا يُحرم ارتداء ملابس جيدة وأكل أطعمة جيدة وسكن بيوت جيدة وتزيينها، بل كلها أمور جائزة، ولكنه إذا حال دون رقي الإسلام فسيصبح حرامًا.


يتزوج الناس، ولا تقول الشريعة أن تبحثوا عن المرأة القبيحة للزواج منها، بل قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بأنه ينبغي الاهتمام بحالتها الدينية بدلا من النظر إلى مرتبتها الدنيوية. تقول الشريعة بأن لا تحول المرأة دون عبادتكم، وأن لا تلهيكم نساؤكم عن صلواتكم. لو راعى شبابنا وفتياتنا وآباؤهم وأمهاتهم أيضا هذا الأمر وآثروا الدين على الدنيا لحُلت مشاكل عائلية كثيرة وتحقق الهدف الذي هو هدف كل مؤمن؛ أي نيل مرضاة الله تعالى.


كذلك اللباس، فلا يُحرّم مطلقًا ارتداء اللباس الجيد ولكن لا يجوز أن يغرق الإنسان في تقليد الصرعات لدرجة يتغافل عن أمور الدين ويهتم بلباسه لدرجة يفكر أنه لو ذهب إلى مكان كذا وكذا فسيتسخ لباسه. ينبغي أن لا يتغافل الإنسان عن أمور الدين، فإذا كان لابسًا عند أدائه الصلاة لباسا جيدًا مكويًّا فينبغي ألا يصبّ جل اهتمامه على تجاعيده وطويّاته.


فيقول الإسلام بألا تتغافلوا أبدًا عن أمور الدين، وبهذا تقدرون على أداء حق إيثار الدين على الدنيا.


كذلك لا يمنع الدين من أكل الأطعمة الجيدة، ولكنها تكون حراما إذا حالت دون إنجاز المرء المهمات الدينية. فينبغي أن نضع هذه الأشياء نصب أعيننا أثناء القيام بأعمالنا فنزيل منها ما يحول دون أمور ديننا.


يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام: الناس نوعان؛ نوع ينشغلون بعد إسلامهم في أشغالهم وتجاراتهم، ويركب الشيطان رأسهم ثم يغرقون في الدنيا.


وقال حضرته: لا أعني أن التجارة محرمة بل كان الصحابة أيضا يتاجرون إلا أنهم كانوا يؤثرون الدين على الدنيا. لقد قبلوا الإسلام فتعلموا علومه الحقة التي تملأ القلوب بثروة اليقين وبالتالي لم تزلزل هجماتُ الشيطان قدمَهم في أي ميدان. ولم يحُل أي شيء دون إظهارهم الحق.


قال حضرته: من يصبحون عبيدًا للدنيا، وكأنهم يصيرون عابدين لها، فإن الشيطان يغلبهم ويسيطر عليهم.

والنوع الآخر من الناس هم الذين يهتمون برقي الدين، إنهم حزب الله الذي ينتصر على الشيطان وجنوده."


ولقد قدمت في مستهل الخطبة مقتبسا من كلام المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام وهو يوضح أن هدف البيعة لا يتحقق إلا بإيثار الدين على الدنيا. لفهم هذا الأمر لابد من تحصيل العلوم الدينية إلى جانب الأعمال الدنيوية ثم تطبيقها على النفس، إذ بدون تحصيل العلوم الدينية لا يُعلم ما هو الدين الذي يجب إيثاره على الدنيا.


الصلاة ركن أساسي من أركان الإسلام، ولكن كثيرا من المسلمين – بل ربما كان عددهم أزيد من 80 بالمئة – لا يصلون، وإذا صلوا إحدى الصلوات مرة فيصلّونها مستعجلين وكأنهم يُكرَهون على عمل مكروه. لأجل ذلك كتب المصلح الموعود  ؓ أنّ كبار الناس يتكاسلون في الصلوات، بل كتبَ عن النوّاب والرؤساء بأنهم يستصعبون الصلاة بالجماعة لكأنها أكل الخنـزير عند عامة المسلمين، أي أنهم يصلّون كارهين. ولا يتعلق هذا الأمر بذلك العصر فقط بل هي الحالة السائدة اليوم أيضا. إذ إن معظم الأمراء -بل الذين ينعمون بشيء من رغد العيش- يتغافلون عن الصلاة. وإذا صلّوا فإنهم غافلون عن تلك الحالة التي ينبغي أن يتمتع بها المصلي، لأن المواظبين على الصلوات يحافظون على القيم الإنسانية، ويبيّن الله تعالى أن الصلاة تُحدث في الإنسان تغييرات طيبة.


يقال في هذه الأيام بأن عدد المصلين في مساجد غير الأحمديين في باكستان قد ازداد كثيرا، فإذا كان ذلك صحيحًا فما هو الانقلاب الذي أحدثته هذه الزيادة في أنفسهم؟ لا يعطيهم المشايخ والخطباء الذين يصلون خلفهم إلا دروس الكراهية، ولأجل ذلك فمع ازدياد عدد المصلين تزداد فيهم نيران الكراهية اشتعالا. إنهم ليسوا بأقل ظلمًا لبعضهم ناهيك عن ظلمهم لنا، والسبب في ذلك أن عباداتهم ليست هادفة إلى إيثار الدين بل هي لنيل الدنيا فقط. إنهم يتوجهون إلى المساجد لهدف سام في الظاهر ولكن أهدافًا دنيوية تافهة تكون خافية وراءها. فثمة حاجة إلى رفع المستوى الفكري من أجل تحقيق أهداف عالية. وليست التضحية ما يبذله المرء لتحقيق أهدافه بل ما يبذله ابتغاء مرضاة الله. فلا فائدة من زيادة عدد المسلمين في مساجدهم إن لم تتحقق أهداف سامية من إقامة حقوق البشر إلى جانب حقوق الله تعالى ونشر الدين وإقامة الإسلام. وإن هذه الحالة المؤلمة لعامة المسلمين ينبغي أن تنبّهنا -نحن المسلمين الأحمديين- أكثر إلى الطرق التي يجب علينا اتباعها لفهْم موضوع إيثار الدين على الدنيا وتحقيق هذا العهد. لا بد أن نؤدي حقوق البشرية إلى جانب حقوق الله تعالى، ولا بد من بذل السعي من أجل نشر ديننا وإقامته، وبعد ذلك يجوز لنا الاستفادة بالنعم الدنيوية بالقدر الذي نريده.


لقد عُهدت إلينا مهمة تبليغ العالم رسالةَ الإسلام الجميلة، ولا بد أن نؤديها. وفُوّض إلينا أمر ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات مختلفة ولا بد أن نؤدي حقه. ولا بد أن ننشئ المساجد في كل مكان حتى نجعل الناس عابدين حقيقيين لله تعالى، ولا بد أن نضع خططًا في كل بلد لأداء حقّ هذه المهام، كما لا بد أن نقيم القيم الإنسانية على أعلى مستوياتها. إذا كنا نقوم بكل ذلك إلى جانب كسب الدنيا فإن كسبَنا الدنيا أيضا يتحول إلى عبادة. وإن لم يكن الأمر كذلك فإن أعمالنا المشروعة أيضا تصبح في نظر الله غير جائزة.


إذا طُرح في السوق جوَّالٌ حديث من آيفون أو إذا كان أحدنا استلم مبلغا وأراد أن يشتري به سيارة جديدة أو طقما جديدا وأهملْنا بسبب هذه الأشياء التبرعاتِ أو أجّلناها فستصبح هذه الأشياء غير شرعية رغم كونها حلالا. وكذلك إذا كانت الجماعة تخطط لبناء مسجد في مكان ما وآثرنا الأهداف الأخرى عليه فتصبح هذه الأشياء غير مسموح بها لنا رغم كونها حلالا ومسموحا بها لإنسان عادي، وفي الأوضاع العادية.


في غزوة أحد حين أشيع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قد استُشهد، كان أحد الصحابة الذي قد شارك في الحرب على كونه جائعا من عدة أيام يتناول بعض التمرات الجافة عنده وهذا كان طعامه، وكان المسلمون قد أحرزوا نوعا من الانتصار. لكنه حين سمع عن استشهاد النبي ﷺ رمى من يده تلك التمرات واندفع إلى الحرب واستُشهد. ففي تلك الساعة لم يهتم ببطنه ولم يفكر في الطعام بل قد عدَّ تناوُلَ تلك التمرات إثما. فالعمل الذي يحول دون إنجاز مهمة دينية غير مسموح به مهما كان ساميا ورائعا في حد ذاته. أما الذي لا يعرقل أعمال الدين فهو جائز وليس سيئا مهما كان من الراحة والرفاهية. إذن يجب أن نخلق الروح التي تجعل قلوبنا تسعى لنيل رضوان الله. فقد ورد في رواية –والله عليم بما في القلوب- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَذَهَبَ وَاحِدٌ قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا وَأَمَّا الْآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَن النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وَأَمَّا الْآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ (أي أن جلوسه هناك تسبب في العفو عن ذنوبه، إذ استحيا، وغفر الله له الذنوب حياءً) وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ.


ففي ظاهر الأمر إن حضور ثلاثة أشخاص وجلوس اثنين وانصراف الثالث أمرٌ عادي بسيط، لأن الثالث ظن أن الصوت لا يصل إليه فلذا لا يفيد الجلوس. لكن لما كانت تصرفاتهم أمورا قلبية وتخص القلب، وكانت تُظهر كيفية القلب، والله تعالى مطَّلع على القلوب، وتكون إنعاماته بحسب حالة القلب، لذا فإن حالة القلب مهمة جدا من ناحية الجزاء والنتيجة. فهذا الأمر جدير بالتذكر، ففي هذا الخصوص أيضا عاملَهم الله بحسب ذلك، حيث اطَّلع تعالى على حالة قلوبهم لأنه عليم بما في القلوب. فعلم مَن منهم فائق من ناحية الحالة القلبية ومَن الذي تقاعس، فنال الأوَّلان الجزاء بحسب درجتهما وحُرم الثالث منه بل صار محل عتاب.


فعلى المؤمن أن يرى لأي مدى قدَّم التضحية من أجل الهدف الذي يريد تحقيقه. فإن قدَّم تضحية مطلوبة استحق نصرة الله والجزاء منه. فالتضحية دوما إما تكون بحسب السعة أو بحسب الحاجة. وليس من الضروري أن يضحي المرء دوما بحسب القدرة، لأن الشريعة أحيانا تتطلب التضحية بحسب الحاجة. فمثلا إذا جاء أي مسافر وسأل مائة جنيه من بضعة أشخاص، وهو محتاج فعلا وسؤاله في محله، فسدَّ حاجته بعضٌ من الموجودين أو كلهم بحسب سعتهم، ومع ذلك بقي عشر جنيهات من الطلب، وفجأة أتى شخص ذو سعة، بحيث إذا أراد استطاع أن يسد الحاجة وحده، لكن الحاجة تطلبت منه عشر جنيهات فقط وهو قدَّمها. فهو قد سدَّ الحاجة وإن كان يقدر على أكثر من ذلك. فتضحيته بحسب الحاجة، وقدمها بصدق النية، فسوف يثاب على ذلك. وكذلك حين تُطلب التبرعات في مشروع معين، فالناس يتبرعون بالمئات والألوف، ويتبرع الفقير ببضعة جنيهات بحسب سعته، فإن الله المطلع على القلوب يكرمه على ذلك. وهو ينال هدفه. كما أن الثري نال هدفه بدفع مبلغ بسيط بحسب الحاجة، وساعد ذلك المسافرَ الفقير. ونال الفقيرُ أيضا هدفه حيث تبرع بحسب سعته أو أكثر منها، لنيل رضوان الله. فقد ورد في حديث: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ قَالَ رَجُلٌ لَهُ دِرْهَمَانِ فَأَخَذَ أَحَدَهُمَا فَتَصَدَّقَ بِهِ وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا (النَّسائي). إذن يجب أن تتذكروا دوما أن الهدف المتوخى هو نيل رضا الله تعالى. وإن كان كلاهما يبتغي رضوان الله حصرا من هذا الإنفاق.


فالواجب الحقيقي على المؤمن هو أن يجعل قلبه خاضعا لأوامر الله ولنيل رضاه تعالى. ويجب أن يكون هدفه هو الحصول على رضا الله ففي ذلك يكمن فلاحه ونجاحه. وهذا هو المراد من تقديم الدين على الدنيا. لقد كلِّفنا، كما قلتُ من قبل، بأمور كثيرة، وما دمنا نتعهّد بالتضحية بالأرواح والمال والوقت والعزة فعلينا أن نفكر في ذلك بجدية دائما كيف يمكننا أن نسخّر قوانا ومواهبنا كلها للإيفاء بهذا العهد من أجل تقديم الدين على الدنيا.


يُعقَد اليوم اجتماعُ مجلس أنصار الله ومجلس شوراهم أيضا، فعليهم أن يفكروا ويدرسوا في شوراهم واجتماعهم كيف يمكنهم رفع مستوى إيثارهم الدين على الدنيا، ويجب أن يرفعوه، لأن "أنصار الله" يبلغون من العمر ما يحتّم عليهم أن يكونوا أسوة للآخرين. إن الله ليس بحاجة إلى أي شيء منا، بل إنه لمن عطائه ومنته أنه أمرنا بإيثار الدين على الدنيا، وذلك لنفوز برضوانه، وإلا فقد ضربت لكم مثال المال، فإنه تعالى غني عن أموالنا. إنه ليس بحاجة إلينا ولا إلى أحد غيرنا، فهو الذي خلق الأرض وما فيها من مناجم الذهب والفضة، ولو أراد لآتى خدام دينه كل هذا ووزّعه عليهم، ولكنه تعالى يخبرنا بأهدافنا ثم ينبهنا إلى تقديم التضحيات في سبيل تحقيقها، ذلك ليمنّ علينا برضوانه. ثم إنه لم يعطنا المال فقط، بل وهبنا الأولاد كذلك، وإنه أوجد الطرق لتربيتهم، ولكنه أمر الآباء بتربيتهم والإنفاق عليهم حسب وسعهم من أجل هدف نبيل وهو أن يكونوا من خدام الدين. إذن فإنها لمسئولية كبيرة على الآباء الأحمديين أن يربّوا أولادهم بحيث يكونوا خدام الدين، ولو فعلنا ذلك لوفّينا بعهدنا بأننا سنؤثر الدين على الدنيا.


علينا أن نربي أولادنا تربية تُشعرهم من الصغر بواجب إيثار الدين على الدنيا. فبإلقاء هذه المسئوليات على عواتقنا يختبرنا الله ويمنّ علينا كذلك.


وأود هنا أن أقول للمسئولين على كل الصعد خاصة أن عليهم أن يدركوا أن مسئوليتهم أكبر من غيرهم فيما يتعلق بالوفاء بعهدهم بإيثار الدين على الدنيا؛ لقد جُعلوا مسئولين لتحقيق هدف سام يتطلب منهم رفع مستوى تضحياتهم. وهذا الشعور سيجعل كل مسئول- بدءًا من أصغر مسئول إلى أكبر مسئول في الجماعة، وبدءًا من مسئول في حارة في مدينة إلى مسئول على صعيد المركز- أن يدرك حجم مسئوليته، فيسعى للوفاء بعهده هذا، ويجب أن يسعى لذلك. اعلموا أن الله تعالى ينظر إلى القلوب، ويبارك في الذين يتمنون العمل بإخلاص وأمنية صادقة عارمة، ويمنّ عليهم بقربه، وعلى كل مسئول في الجماعة بذل كل ما في وسعه للفوز بهذا المقام. أسأل الله تعالى أن يوفق كل مسئول بكل الصعد، وكذلك كل مسلم أحمدي، وإياي، أن ندرك أهمية عهدنا بإيثار الدين على الدنيا إدراكًا سليما، ثم نعمل للوفاء به.


هناك خبر مؤسف اليوم أيضا، فقد استُشهد أخ لنا في باكستان، وهو السيد لطيف عالَم بَتْ ابن السيد خورشيد عالم بت من مدينة "كامَرَه" بمحافظة "اَتَكْ"، حيث جاء مجهولان على دراجة نارية نحو الساعة السابعة ليلا في 15 أكتوبر وقاما باغتياله بإطلاق النار عليه. إنا لله وإنا إليه راجعون. أما تفاصيل حادث استشهاد الأخ لطيف عالم بت فهي كالآتي. كان الشهيد قد فتح مكتبةً بالقرب من بيته، وكان عائدا منها، ولما وصل إلى شارع بيته ناداه مِن خلفه مجهولان جاءا على دراجة نارية قائلين: سيد بَتْ! فاستدار إليهما فأطلق عليه أحدهما النار، فأصيب بأربع رصاصات في صدره، فأبلغ البعضُ ابنَه "ذيشان بت" خبر الحادث، فوصل إليه فورا، وجاء رجال الإسعاف أيضا وأخذوه إلى المستشفى الحكومي بمدينة "اتك" وهو واعٍ، ولكنه استُشهد في الطريق. إنا لله وإنا إليه راجعون.


كانت عائلة الشهيد لطيف عالم بت من سكان مدينة "كامَونكي" بمحافظة غوجرانواله. دخلت الأحمدية عائلته بواسطة والده السيد خورشيد عالم بت الذي وفقه الله تعالى للبيعة والانضمام إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1934. وُلد الشهيد في غوجرانواله في إبريل عام 1952، وبعد نجاحه في امتحان البكلوريا التحق بسلاح الجوّ في القوات الباكستانية، وتقاعد في عام 1991 من رتبة "كاربرل تنكنيشن" وكان عندها يعمل في قاعدة القوات الجوية بـ"كامره". علمًا أن ابن الشهيد "خرم بت" موظف في القوات الجوية الآن. بعد التقاعد فتَح الشهيد مكتبة يبيع فيه الكتب لاسيما الكتب القانونية وكان المحامون من مختلف المحاكم الباكستانية يشترون هذه الكتب من محله، إذ كان شهيرا بينهم وكانوا يثنون عليه كثيرا.


كان الشهيد وقت استشهاده يخدم الجماعة بمنصب ناظم الإشاعة في مجلس أنصار الله. وخدم من قبل سكرتيرا للضيافة، وناظمًا للصحة البدنية في مجلس خدام الأحمدية على صعيد المحافظة. ظل بيت الشهيد مركزا للجماعة لأداء الصلاة ولعقد الاجتماعات والجلسات فترة طويلة. كان الشهيد يظل جاهزا على الدوام لخدمة الجماعة وكان ينجز كل ما يعهد إليه على خير ما يرام، ولم يرفض أي خدمة طلبت منه أبدًا. كان مضيافا، ومحبًا بل عاشقا للخلافة، ومطيعا للغاية. إضافة إلى الصلوات الخمس، كان حريصا جدا على صلاة الجمعة، إذ كان يحضر المسجد قبل الجمعة بساعتين. كان شجاعا باسلا جدا. في عام 2007 أو 2008 حاول مجهولون اغتياله، وأطلقوا عليه النار ولكن الرصاصة انحشرت في المسدس، فتصدى للمهاجمين وقبض على أحدهم، ثم استمر الصراع العنيف بين الطرفين، فلاذ هذا المهاجم بالفرار أخيرا. كان الشهيد متحليا بأخلاق فاضلة وكانت له هيبة. كان شغوفا بتعليم الأولاد وتربيتهم. كان عمره عند الاستشهاد 62 عاما. كان قد ملأ استمارة الوصية، وكان المركز يقوم بإجراءات لقبولها. وأقول للمسئولين في مكتب الوصية أن يقبلوا وصيته إذ قد قبلتُ وصيته، وليكملوا الإجراءات الباقية بعدّه موصيا.


لقد كتب أمير الجماعة في محافظة الشهيد: كان المرحوم مفعما بعاطفة الطاعة للمسئولين ونظام الجماعة، وكان يحضر دائما شتى المناسبات والاجتماعات التي تعقد في الجماعة، ولم يغِب عن أي منها.


لقد ترك خلفه أرملته وبنتًا اسمها إرَم وسيم زوجة السيد سيد وسيم أحمد، وأربعة أبناء: خرم بت وهو الذي يعمل في سلاح الجو، وذيشان بت وكان يعمل مع والده بعد إكمال الدراسة، وعمر بت وهو يدرس الهندسة الالكترونية، علي بت وهو موظف.


كان السيد محمود مجيب أصغر أميرًا لمحافظة الشهيد في السابق، فقال: أقام الشهيد بعد تقاعده من القوات الجوية في "كامره" إقامة دائمة، وذلك لأنه رأى أنه ليس في "كامره" أحمديون محليون، بل الجماعة هناك متكونة من أحمديين يعملون في القوات الجوية ومعاملها ضباطا أو عاملين، ويأتون للعمل هناك لمدة ثم يرحلون، فبنى بيته هناك ليكون هناك مركز للصلاة وجماعة ثابتة.


أسأل الله تعالى أن يثمر نية الشهيد هذه ويعطينا هنالك آلاف الأحمديين، ويقيم هنالك جماعة ثابتة، جزاءً على استشهاده. آمين.


أسأل الله تعالى أن يرفع درجات الشهيد ويلهم ذويه الصبر والسلون والهمة. كما أسال الله تعالى أن يحفظ أبناء الجماعة في باكستان من كل شر. العدو يزداد عداءً باستمرار، ونسأل الله تعالى أن يهيئ الظروف لأمننا وسكينتنا هنالك عاجلا. آمين.

0 comments :

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

عربي باي