الموقع العربي الرسمي للجماعة الإسلامية الأحمدية

الثلاثاء، 2 أبريل 2013

فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم




فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم




جاء في التفسير الكبير:

بيّنت الآية السابقة أن بني إسرائيل عصوا الله I بينما كان يحسن إليهم، وهنا ذكر أن أئمة الكفر منهم كانوا يستحقون العقوبة لأن العفو التام عنهم على جريمة الشرك كان من شأنه أن يشجعهم على المعاصي. فقال : يا بني إسرائيل، لقد ظلمتم أنفسكم بالشرك ظلمًا عظيمًا، لذلك توبوا إلى بارئكم. ومعنى البارئ الخالق، ولكن هناك فرق بين الكلمتين. 

فبرأ يعني : خلق بدون عيب أو نقص. يقول الزمخشري : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت (الكشاف). وقد أيده العلامة أبو حيان، وهو من كبار علماء النحو واللغة وتفسيره (البحر المحيط) من أرقى كتب التفاسير، وقال بأن هذا الاستدلال للزمخشري استدلال حسن ولطيف.

وقد استنبط الزمخشري هذا بناء على المعنى الأصلي للبرء وهو الخلو من العيب والنقص.

وقال صاحب اللسان أن الفرق بين الخلق والبرء أن الخلق يستخدم لكل مخلوق، أما البرء فيستخدم عمومًا لذوي الأرواح.. تقول العرب : خلق الله السماوات والأرض، وبرأ الله النسمة. وكأن البرء يستعمل لإيجاد مخلوق أكمل وأرقى. وقد استخدم القرآن البرء لخلق المصائب (سورة الحديد:23).. وهذا الاستعمال بسبب المشاركة مع ذوي الأنفس والأرواح، وإلاَّ فلا يعني ذلك أن البرء يستعمل لغير ذوي الأرواح، يقول الله I : ( هو الله الخالق البارئ ) (الحشر:25). وقد جمعت الآية الصفتين، مما يدل على أن هناك فرقًا بين معناهما. فالله I بارئ بمعنى أنه لا يخلق الخلق فقط، بل يخلقه مزودًا بأخلاق وقوى متطورة قابلة للازدهار.

فكلمة البارئ في قوله I : ( توبوا إلى بارئكم ) إشارة لطيفة لدحض الشرك الذي وقعوا فيه. لقد نحت بنو إسرائيل صنمًا، والواضح أن الخالق أفضل من المخلوق، والناحت خير من المنحوت، والمصور أسمى من الصورة لأنه قادر على رسم مثلها بل أفضل منها. أيها الحمقى، تخرون ساجدين لما صنعتموه بأيديكم وهو جماد تافه ولا حياة فيه؛ ولكن الذي صنعكم بهذه الحياة صنعة كاملة فنسيتموه. إن الصانع أفضل من صنعته، وأنتم أعظم من الصنم الذي صنعتموه بأيديكم فلا يستحق عبادتكم، وأنا الذي صنعتكم، فكان الأولى بكم أن تلتفتوا إلي وتعبدوني وحدي ولا تقعوا في هذا الشرك القبيح.

فبقوله I : ( توبوا إلى بارئكم ) ألقى الضوء على ضرورة التوبة وكذلك على حقيقة أن التوبة الحقيقية هي التي تكون إلى الله وحده. وهكذا حشد في ثلاث كلمات معاني تحتاج إلى كتاب، فكأنه أدخل البحر في إناء.

قوله I : ( فاقتلوا أنفسكم )..كما سبق في شرح الكلمات فإن القتل يعني القتل الظاهري، وكذلك الإعراض والمقاطعة. لقد ذهب المفسرين إلى أن القتل هو قتل أهواء النفس، ولكن يتبين من الكتاب المقدس أنه عوقب بعض أئمة الجريمة بالقتل. ولقد ذكر الله I أمر العفو العام أولاً، ثم أتبعه بذكر شناعة هذه الفعلة من اليهود على وجه خاص، فيبدو من ذلك أن بعض الناس قد عوقبوا فعلاً بالقتل. تذكر التوراة في هذا الصدد قول موسى u لبني لاوي: (هكذا قال الرب إله إسرائيل: ضعوا كل واحد سيفه على فخذه، ومروا وارجعوا من باب إلى باب في المحلة، واقتلوا كل واحد أخاه، وكل واحد صاحبه، وكل واحد قريبة، وفعل بنو لاوي بحسب قول موسى. ووقع من الشعب في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف رجل ) (خروج 27:32و28). ثم تقول التوراة إن موسى ابتهل إلى الله طالبًا الرحمة وقال : (آه، قد أخطأ هذا الشعب خطية عظيمة وصنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب. والآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت) (خروج32:32). ثم ورد أن الله I عفا عنهم كقوم، ولكن لم يعف عن أئمة المجرمين كأفراد، بل قال: سوف أحاسبهم يوم القيامة (المرجع السابق:34).

يظهر من عبارات التوراة هذه أن هؤلاء المجرمين عوقبوا بالقتل، ثم رفع الله I العقوبة القومية عنهم رحمة لهم بسبب دعاء موسى، ولكن العقوبة يوم القيامة لكبار المجرمين لم تزل في انتظارهم.

هناك شيء من الاختلاف بين بيان الكتاب المقدس وبيان القرآن الكريم، فيرى هذا أن العفو القومي كان أولاً، ثم ذكر تنفيذ العقوبة على قادة الجريمة، أما التوراة فتقول إن تنفيذ العقاب على قادة المجرمين كان أولاً ثم صدر العفو القومي من الله I. ولا نجد مصدرًا تاريخيًا يتناول هذا الحادث سواهما. ولكن رأينا عمومًا أن شهادة التاريخ عند توافرها في مناسبات الاختلاف الأخرى كانت دائمًا في جانب القرآن الكريم؛ ومن ثم نجد أن بيان القرآن هو الأولى بالقبول.

كما توجد هناك شهادة فطرية. فالعادة أنه عندما يرتكب فريق من الشعب جريمة قومية يثور ضدهم الآخرون، وإذا صدر عفو كان عفوًا عامًا، ثم يعاقب المحرضون وكبار المجرمين. وهذه الشهادة أيضًا في صف البيان القرآني. فعندما أخبرهم موسى بسخط الله I على الجريمة ندموا، وعندما ابتهل موسى إلى الله طمأنه الله I بأن شعبه لن يهلك جميعه ولكن أئمة الكفر يستحقون عقابًا لازمًا.

ورواية التوراة تقول إن الله I أمر بقتل جميع الشعب، وتم تنفيذ الأمر، ثم لما ابتهل موسى إليه I عفا عمن نجوا من القتل. وهذا الترتيب التوراتي للأحداث غير طبيعي وظالم أيضًا؛ وكأن من قُتل قُتل، ثم شمل العفو الآخرين بصرف النظر عن كونهم من أئمة الكفر أم من الأبرياء. وكأنه عند العقوبة لم يلاحظ أهمية الجرم فسوى بين الجميع، وعند العفو أمر بوقف تنفيذ العقوبة فجأة، فنجا الباقون أبرياء ومجرمين، مع أن العقوبة التي تصدر بحسب القانون الشرعي تنفذ بحسب أهمية الجريمة.هذا، وإن كانت سُنّة العقاب الطبيعي بطريق الكوارث والنوازل لها قواعد أخرى، فإنها تنزل بالجميع ولا تفرق بين أحد منهم.

فثبت مما سبق أنه بحسب قانون العدل والإنصاف فإن القرآن هو الصواب..الذي يقول بأن من وقعوا جهلاً أو رهبة من الآخرين استحقوا العفو، وأما أكابر المجرمين فاستحقوا العقاب.

ويجب تذكر أن قوله I : ( فاقتلوا أنفسكم ) لا يعني أن انتحروا بل يعني اقتلوا أئمة الجريمة من أقاربكم وأصدقائكم كما جاء في التوراة. ورد في القرآن الكريم : ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) (البقرة:85).. بمعنى لا تخرجوا إخوانكم من ديارهم، وقال أيضًا : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) (التوبة:36)، أي لا يظلم بعضكم إخوانه في الأشهر الحرُم، وقال أيضًا : ( فإذا دخلتم بيوتًا فسلَّموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) (النور:62). يعني : سلموا على أقاربكم وإخوانكم في هذه البيوت.

ويبدو أن الأمر كان بقتل أئمة الجريمة على يد أقربائهم وإخوانهم. وكان لهذا الأمر مصلحتان : الأولى إيقاع العقوبة بالمجرم قتلاً، وإيقاع العقوبة بالمنفذ بقتل صاحبه بيده ومشاهدة مقتله بعينيه؛ والثانية: أن نظام بني إسرائيل كان يقوم على القبائل، والعداوة بين القبائل تكون شديدة، فلو كان منفذ العقوبة على أحد من قبيلة غير قبيلته لثارت العداوات والأحقاد على أشدها ، واشتغلوا بها ونسوا جريمة المقتول، ولغلبت عليهم فكرة الثأر. فكان هذا الأمر الإلهي نجاة لهم من الوقوع في المزيد من الفتن وإصلاحًا لقلوبهم بطريق شعورهم بالألم.

لقد أُمر بنو إسرائيل بهذا الأمر الإلهي لهذه الحكمة، ولربما عملوا به كرهًا. ولكن فيما يتعلق بالرسول r فإن أحد أصحابه تطوع بمثل هذه الخدمة مما يدل على أن الذين عاشوا في صحبته r وصلوا إلى ذروة مكارم الأخلاق. كان الرسول r قافلاً من غزوة بني المصطلق فعرّجوا للراحة عند موضع. وكان هناك بئر واحدة، وكان هناك زحام لكثرة الوُرّاد. واختلف شخصان على الماء وتشاجرا. وتصادف أن أحدهما كان أنصاريًا والآخر من المهاجرين. ولما تصايحا انقسموا فجأة ولا شعوريًا إلى فريقين كادا يقتتلان. فانتهز رأس المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول هذه الفرصة التي سنحت له وقال مؤلبًا الأنصار: أنتم بأنفسكم أركبتموهم على أعناقكم وإلاَّ ما استطاعوا أن يذلونا هكذا: ( لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ) (المنافقون:9).. يعني بقوله أن أعز رجل في المدينة، يريد بذلك نفسه، سوف يطرد منها أذل رجل منها، يقصد النبي r والعياذ بالله، وهذا هو المعنى الذي فهمه الصحابة من قوله. وربما يكون مراده أن الفريق الأعز، أي الأنصار، سوف يطردون من المدينة الفريق الأذل، أي المهاجرين. وأيًا كان المعنى فالنتيجة واحدة.

وكان الصحابة وقتها في حماس وشجار، ولكنهم ما أن سمعوا هذه الكلمة الكريهة من عبد الله بن أُبي بن سلول حتى رجعت إليهم عقولهم، وفطن الأنصار فورًا إلى أنهم في لحظة امتحان شديد لإيمانهم، فأنهوا الشجار على الفور وافسحوا المكان للمهاجرين، وأما المهاجرين فقد هدأوا كذلك. ثم أخذ الأنصار يتلاومون بأنَّا لا نستحق الحياة بعد ما صدر من ابن سلول. ولما بلغ الخبر ابن رئيس المنافقين قرّر أن أباه لا يستحق الحياة بعد جريمته النكراء هذه. فجاء النبيَّ r وقال: يا رسول الله، هل بلغك ما قاله عبد الله؟ قال r : نعم. قال: يا رسول الله، هل له عقوبة غير القتل؟! إن كنتَ أمرًا بقتله فمُرْني أضرِبْ عنقه، لأني أخاف أن يقتله غيري فتثور نفسي وأقتل قاتله، فأقتل مؤمنًا بكافر. (السيرة النبوية لابن هشام).

تأملوا النظر الثاقب للصحابة ! فابن زعيم المنافقين لا يريد قتل أبيه بيده لأنه ارتكب إهانة للنبي r، إذ كان يعرف أن المجرم مهما كان ذا مكانة وجاه فهو أبوه، وإنما يريد قتله بيده لكيلا ينشأ في قلبه بغضٌ نحو أخٍ مسلم. فكأن الحكمة التي وجه الله إليها أنظار بني إسرائيل بالوحي الجلّي..توصل إليها أصحاب الرسول بأنفسهم عن طريق الوحي الخفي الذي هو ثمرة نور إيمانهم، رضي الله عنهم ورضوا عنه !

قوله I : ( ذلكم خير لكم عند بارئكم ) إشارة إلى ما ذكرت آنفًا.. أي أن إنزال العقوبة بأئمة الشرك خير لقومكم، لأن حالة قلوبكم سيئة لدرجة أن العفو لا يصلحها وحده، بل لا بد من قَدْرٍ من العقوبة. ويشير أيضًا إلى أن في قتل الأقارب بيد الأقارب، والأصدقاء بيد الأصدقاء خيرًا لكم، لأن قتلهم بيد غيرهم سوف يثير بينكم فتنة البغض والانتقام التي لن تنتهي؛ خصوصًا وأن دافع الانتقام عندكم شديد لا تخبو ناره.

قوله I : ( فتاب عليكم ).. يعني توجّه الله إليكم بفضله ورحمته..أي تناسى جريمتكم بعد توقيع هذه العقوبة. وما ذكَّركم بها إن لم تكونوا قد ارتكبتم مزيدًا من الجرائم.

وقوله I : ( إنه هو التواب الرحيم ).. أي يقبل التوبة مرة بعد مرة، وينظر إليكم بعين الرحمة الواسعة المتكررة. وما حدث لكم فيما بعد كان بسبب ما ارتكبتم من المعاصي والمساوئ المستمرة، وهو دليل على انكم لم تقدروا العفو الإلهي العظيم الذي صدر رغم شناعة جريمتكم.

تذكر التوراة أنه قُتل في ذلك اليوم ثلاثة آلاف، ولكن هذا مخالف للعقل تمامًا. فإذا كان أئمة الشرك وحدهم ثلاثة آلاف لكان عدد الجميع مئات الألوف. ولكن عدد إسرائيل في ذلك الوقت لم يكن بذلك القدر، لا بحسب التاريخ ولا بحسب الأحداث. ففي زمننا هذا الذي تيسرت فيه وسائل السفر على شتى الأنواع لا يستطيع مئات الآلاف بهذه التسهيلات عبور صحراء سيناء، فكيف استطاع بنو إسرائيل في ذلك الزمن عبورها بوسائلهم البدائية مع نسائهم وأطفالهم وأمتعتهم؟ بحسب ما يتبين من القرآن، وبحسب شهادة العقل لم يكن هؤلاء المهاجرون يتعدون بضعة آلاف. وربما عدد القتلى بضعة أفراد وبالغ كتاب التوراة فيما بعد وجعلوه ثلاثة آلاف.


منقول

0 comments :

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

عربي باي